محمد أبو المجد يكتب: عندما كان الأزهر أزهر
عندما أراد الفرنسيون أن يسكتوا أصوات المقاومة توجهوا من فورهم إلى الأزهر.. جعلوا كل همهم تدمير القلعة الإسلامية، وإخراسها للأبد، تصوروا أن ذلك ممكنا.
في الثاني والعشرين من أكتوبر عام 1798، انطلقت قذائف المدافع الفرنسية المثبتة في حصون القلعة.. قلعة صلاح الدين، فسقطت في صحن الجامع الأزهر، وتناثرت شظاياها، ففتكت بالجموع التي احتشدت فيه، ثم توالى سقوط القنابل، حتى أوشكت جدران الجامع أن تتداعى على الأشلاء الممزقة، والجثث المتراكمة.. وكان وابل القنابل يتساقط من أعلى القلعة، فيدمر الأحياء المجاورة للجامع العتيق، ويحيلها ركاما، وكان الأزهر في ذاته هدفا مطلوبا، فمنه انطلقت جذوة الثورة على الحملة الفرنسية، وإلى رحابه لجأ الثائرون، فأصبح بؤرة للوطنية المتأججة، إلى جانب كونه معقلا للعلم والدين.
لم يتورع نابليون بونابرت عن صب نيرانه الحامية على الجامع الأزهر وما جاوره من أحياء مكتظة بالأهالي.
يقول الجبرتي في وصف المذبحة: “فلما سقط عليهم ذلك ورأوه، ولم يكونوا في عمرهم عاينوه، نادوا ياسلام من هذه الآلام.. يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف.. وهربوا من كل سوق، ودخلوا في الشقوق، وتتابع الرمي من القلعة والكيمان، حتى تزعزعت الأركان، وهدمت في مرورها حيطان الدور، وسقطت في بعض القصور، ونزلت في البيوت والوكائل، وأصمت الآذان بصوتها الهائل..
وبعد هجعة من الليل، دخل الفرنجة المدينة كالسيل، ومروا في الأزقة والشوارع، لا يجدون لهم ممانعا.. ثم دخلوا إلى الجامع الأزهر، وهم راكبون الخيول، وبينهم المشاة كالوعول، وتفرقوا بصحنه ومقصورته، وعاثوا بالأروقة والحارات، وكسروا القناديل والسهارات، وهشموا خزائن الطلبة، والمجاورين والكتبة، ونهبوا ما وجدوه من المتاع، والأواني القصاع، والودائع والمخبآت، بالدواليب والخزانات، ودشنوا الكتب والمصاحف، وعلى الأرض طرحوها، وبأرجلهم ونعالهم داسوها، وأحدثوا فيه وتغوطوا، وبالوا وتمخطوا، وشربوا الشراب، وكسروا أوانيه، وألقوها بصحنه ونواصيه، وكل من صادفوه به عروه، ومن ثيابه أخرجوه..
وخرج سكان تلك الجهة يهرعون، وللنجاة بأنفسهم يطلبون، وانتهكت حرمة تلك البقعة، بعد أن كانت أشرف البقاع.. وكثير من الناس ذبحوهم، وفي بحر النيل قذفوهم، ومات في هذين اليومين، أمم كثيرة لا يحصى عددها إلا الله”.
حدث هذا عندما كان الأزهر أزهر.
1000 سنة أو يزيد مرت على هذا الجامع العتيق وهو يلقى أضواء المعرفة على الشرق الإسلامى كله. 1000 سنة مرت وهو يصون تراث العروبة والإسلام، ويستبقى علوم اللغة والدين في حرز آمن من هجمات الفاتحين وتفريط المفرطين.
وحسب تعبير الشيخ “محمد الغزالي”، رحمه الله، كادت الثقافة العربية والإسلامية تموت وتندثر في ليل الحكم التركى الطويل.. ذلك الحكم الذي شل النشاط الأدبى في العالم الإسلامى، وكاد يطوى الحضارة الإسلامية في أكفانه الكالحة.. لولا هذا الأزهر الذي آوت إليه العروبة ولغتها والدين ودراساته.
ولم يكن علماء الأزهر موظفين يشتغلون بالشئون العلمية فحسب.. بل كانوا حراسا على تعاليم الإسلام، يذرون الحاكم والمحكوم بها، وينهضون بعبء التوجيه الاجتماعى دون وجل ولا ملل.
وتاريخ ” الأزهر” حافل بمواقف شتى على تراخى العهود واختلاف الدول التي تتابعت طوال عشرة قرون. وإن كنا نذكر ـ تبيانا للحقيقة ـ أن مناصب الأزهر الكبرى قد ظفر بها أحيانا بعض من فرطوا في أمانة التوجيه وحسن الدعوة إلى الله.
ومن الصفحات النقية لعلماء ” الأزهر” انحيازهم إلى جانب الأمة كلما رأوا ظلما يحيق بها من الداخل أو يهبط عليها من الخارج. ومن هنا كانوا موئل الشعب أيام المماليك، ثم عندما وقعت مصر فريسة الاحتلال الفرنسى.
ومما يجدر التنويه به أن علماء الأزهر آزروا بطريرك الأقباط “بطرس السادس” في نزاع نشب بينه وبين كبير الأمراء المماليك “ابن إيواظ” على الأحوال الشخصية لأقباط مصر.. فقد كان هذا البطريرك صلبا في دينه، متشددا في تطبيق شريعته، متحمسا في أخذ رعيته بها مما جعل البعض يضيق به.
وعرض الحاكم أمره على علماء الأزهر، فإذا العلماء يقرون البطريرك على مسلكه ويؤيدونه في سيرته؛ مما جعل كبير الأمراء يتراجع عنه ويدعه وشأنه.
وهذه قصة تكشف عن طبيعة السماحة في الإسلام، كما تكشف في الوقت نفسه عن مدى المكانة التي كانت مقررة للعلماء!
حدث هذا عندما كان الأزهر أزهر.
نشر فى فيتو بتاريخ الجمعة 03/فبراير/2017