محمود الحضرى يكتب: من يواجه فساد تعديَّات جمعيات تجفيف البحيرات
في أواخر ثمانينيات وأوائل تسعينيات القرن الماضي اتسعت ظاهرة التعديات على أراضي الدولة خصوصاً في المناطق الصحراوية والبحيرات الطبيعية، واتسعت ظاهرة تجفيف البحيرات وذلك تحت سمع وبصر الحكومات، وكانت يقود هذه التعديات ويحميها مسؤولون بمستويات مختلفة، وذلك تحت عباءة تأسيس جميعات استصلاح الأراضي، والتي كان أعضاؤها من النافذين في الدولة من وزراء، ومحافظين، ورؤساء مدن وأعضاء في مجلس الشعب وقتها.
وشخصياً خضت حملة صحفية لكشف أشكال الفساد في السنوات بين 1989 و1993، على صفحات جريدة “الأهالي” أنذاك لكشف التعديات وأعمال التجفيف غير القانونية على بحيرة البرلس بمحافظة كفر الشيخ وغيرها، وذلك تحت عنوان “إمبراطورية فوة” ووقتها كشفت المستندات عن تأسيس جمعية للإستصلاح الأراضي بإسم “جمعية فوة لاستصلاح الأراضي”، وبرعاية رئيس مدينة فوة أنذاك، تضم في عضويتها شخصيات نافذة، ومسؤولين في هذا الوقت، بهدف استصلاح الأراضي، ولكن الواقع مخالف كلياً.
وكلمة “إستصلاح أراضي” كلمة براقة والهدف كسب التأييد وتسهيل الحصول على الأراضي، إلا أنها الكلمة السحرية، والغطاء للإستيلاء على أراضي الدولة وبشكل قانوني، وسريعاً ما تكشفت الأمور أن الجمعية واحدة من مجموعة جمعيات أخرى تحمل إسم مطوبس، والمحاربين القدماء وضباط الشرطة، والعديد من الأسماء التي تحمل في مضمونها الحصانة من أي إجراء قانوني، وتبين أن غالبية، إن لم يكن كل، أعضاء الجمعية هم من شخصيات وزارية في وقتها بينهم وزير الداخلية وأبناءه، ووزير الخارجية وإبنه، ووزير الحكم المحلي وقتها والتنمية المحلية لاحقاً ووزير الإقصاد وعائلات مثل هؤلاء الوزراء، وعدد من المحافظين في هذا الوقت ومناصب أخرى عديدة، وعدد من الأسماء اللامعة في الشرطة من حاملي الرتب الرفيعة، ورجال أعمال.
والغريب أن هذه الجمعية وغيرها توسعت في الأراضي التي تقع تحت سيطرتها، والتي كانت محددة بنحو 5 ألاف فدان من بحيرة البرلس التي تعتبر واحدة من أهم بحيرات مصر، وفي ظل اتساع نطاق الفساد وسياسات المحسوبية ظلت هذا الجمعيات بعيدة عن تطبيق أي قانون، وزاد عدد الجمعيات المشابهة والتي تمارس نفس النشاط على مستوى الجمهورية، ولم تسلم جميع بحيرات مصر من التعديات غير القانوية، وعلى غرار “الدفاتر دفاترنا، والورق ورقنا” فإن الجمعيات تخضع للقانون رقم 122 لسنة 1980، وهو ما تم بالنسبة لجمعية فوه والتي كان يرعاها ويحمل أوارقها رئيس مدينة فوه وقتها وهو بين أيادي الله حالياً، ونفس الشئ لجمعية مطوبس والتي أسسها رئيس مجلس مدينة مطوبس وقتها وهو أيضا بين أيادي الله، وعشرات الجمعيات، والتي خُصص لها الفدان بسعر 200 جنيه.
واستمر تجفيف أراضي البرلس والبحيرات الأخرى والتوسع في الإستيلاء على أراضي الدولة من أجل الصفوة وعلية القوم في ظل ضعف الدولة، بالرغم من وجود قرار لمجلس الوزراء يحمل رقم 1444 صدر في مايو 1998 باعتبار بحيرة البرلس محمية طبيعية، بما لايجوز تجفيف أى مساحات أو الاقتطاع منها، إلا أن الواقع على الطبيعة هو مجرد “تسقيع” الأراضي لصالح فئات ليس هدفها الإستصلاح ولا الإستزراع، في ظل يد ضعيفة للدولة في هذا السنوات.
وعلى مدى سنوات طويلة فشلت كافة المحاولات القانونية في التصدي لفساد جميعات إستصلاح وإستزراع الأراضي، أو ما يمكن تسميته بـ “جمعيات تجفيف البحيرات”، فيد الدولة ظلت ضعيفة وكثيراً أضعف أمام غول الفساد الذي ظل السمة العامة في مختلف المؤسسات، بما فيها المحليات ووزارة الزراعة والحكم المحلي، وأصبح له اليد الطولى بل فوق القانون، والدليل أن العديد من القرارات والقوانين ظلت حبراً على ورق في مواجهة التعديات على أراضي الدولة والمال العام، وبحيرات مصر خير شاهد على ذلك.
وبعد ما يقارب ثلاثة عقود من الزمان، تبين أن الواقع كما هو، وإن إختلف الملاك، وظهور جمعيات وتعديَّات أخرى، ودون الخوض في أسماء المتعدين، لأنها حتماً لدى جهات الإختصاص، ومعروفة للقاصي والداني، فقد تعددت البلاغات لحماية أراضي الدولة وتوزيعها على المزراعين الحقيقين وليس لأهل الصفوة والمتربصين بأراضي مصر، ومحترفي “تسقيع الأراضي”، خصوصاً أن مثل هؤلاء يدركون أهمية هذه الأراضي من حيث القيمة، ولا يعنيهم زراعتها، أو استزراعها، فمعظم الأراضي ومع توسعات الطرق أصبحت أهميتها أكبر، ووصل سعر الفدان إلى مليوني جنيه وذلك لوقوعها بمواقع متميزة على الطريق الدولى الساحلى.
وأصبح التحدي المحوري والمهم في مواجهة التعديات هو وجود يد قوية للدولة على الأرض للتصدي لهذه الظاهرة، ولاشك أن أن هناك جدية في المواجهة من خلال المعركة ضد التعديات والتي بدأت خطوات فعليه، من خلال تعزيز قبضة الدولة في إنفاذ القانون، إلا أن خط النهاية غير معروف حتى الآن، ويبقى الأهم هو مكافحة أشكال الفساد الداعم الرئيسي للتعديات، حتى تتأكد قوة الدولة لحماية أراضيها وبحيراتها من جمعيات “التجفيف” واسترداد أموال عامة يمكن وصفها بأنها تقع تحت دائرة “الأموال المهوبة”.
ويبقى أن معيار الأداء هو أن نرى بحيرات مصر وأراضيها خالية من طغاة التجفيف، ومحترفي التعديات من الحيتان والقطط السمان الذين استولوا على آلاف الأفدنة من أراضي الدولة والمزارع السمكية دون رقيب أو حسيب، وإعادة توزيعها على المنتجين والمزراعين الحقيقيين، والتقنين لمن يزرع وينتج بالفعل غذاء مصر.