
في الذكرى الثانية والخمسين من إنتصارات حرب أكتوبر المجيدة فى العام 1973 أصبح أحفاد أبطال الحرب يتصفحون أمجاد آبائهم وأخواتهم على هواتفهم الذكية، لينفتح أمامهم عالمٌ من الذكريات الرقمية التي جسدت ملحمة السادس من أكتوبر 1973 بصورة غير مسبوقة، لم تكن صوراً باهتة بالأبيض والأسود كما اعتاد أجدادهم أن يرووها، بل كانوا يعيشون التجربة كاملةً: يعبرون قناة السويس عبر محاكاة افتراضية، يستمعون إلى بث إذاعي مندهش من الجانب الإسرائيلي، ويتتبعون خطط المعركة من خلال رموز برمجية تترجم لغة النصر إلى لغة المستقبل.
ذلك المشهد لم يكن من وحي الخيال، بل انعكاس واقعي لتحول ذكرى أكتوبر إلى تجربة رقمية حية، قادتها تكنولوجيا المعلومات لتصبح الحارس الأمين لذاكرة الوطن، والمعلّم الذي يروي للأجيال حكاية العبور كل عام، بأسلوب يواكب عصرهم.
قبل ثورة المعلومات، كانت تفاصيل انتصار أكتوبر حبيسة الأرشيفات الورقية والملفات المغلقة في الأدراج الرسمية، أما اليوم، فقد تحولت إلى منظومة رقمية متكاملة، تُتيح للباحثين والطلاب والإعلاميين الوصول إلى آلاف الوثائق التاريخية بضغطة زر، فقد أطلقت الحكومة “المكتبة الرقمية الوطنية”، كمشروعاً وطنياً ضخماً لرقمنة كل ما يتعلق بالحرب: خطط القتال، خرائط الميدان، تقارير العمليات، وحتى التسجيلات الصوتية بين القادة في الجبهة، وبات بإمكان البحاث في أى مكان بالجمهورية أن يتصفحوا الوثائق الأصلية المحفوظة في القاهرة في لحظات قليلة، دون أن يتحركوا من مكتبهم.
ولم تتوقف المبادرات عند التوثيق، بل امتدت إلى “المنصات الوثائقية التفاعلية”، التي تتيح للمشاهد خوض تجربة العبور من خلال أفلام رقمية تفاعلية، يمكن خلالها فتح نوافذ لشرح التفاصيل الميدانية أو عرض خرائط المعارك لحظة بلحظة، هذه التقنيات لم تعد تُخبر القصة، بل تُعيد سردها بتقنيات تجعل الأجيال الجديدة “تعيش النصر” كما عاشه الآباء.
واستثمرت المؤسسات التعليمية والمتحفية المصرية في تقنيات “الواقع الافتراضي (VR)”، لنقل الطلاب مباشرة إلى ساحات القتال، حيث يمكنهم ارتداء نظارات رقمية ليجدوا أنفسهم داخل دبابة تعبر خط بارليف، كما أطلق “متحف الجيش المصري القومي” أجنحة رقمية تفاعلية تمكّن الزائر من خوض تجربة العبور افتراضياً، ليتعلم التاريخ لا من الكتب، بل من التجربة الحية، وإلى جانب ذلك، ظهرت مبادرات رقمية مبتكرة مثل منصة “أكتوبر: كل حكاية ليها صوت”، التي تقدم شهادات حية من أبطال الحرب وأسرهم عبر بودكاست ومنصات تفاعلية قصيرة، لتصل إلى الشباب بلغتهم وبإيقاع عصرهم، وتربطهم وجدانياً بالبطولة المصرية.
لم تكتف تكنولوجيا المعلومات بتوثيق المعارك، بل أسهمت في تحليلها وفهمها بصورة علمية دقيقة، ففي الأكاديميات العسكرية ومراكز البحث، تُستخدم برامج المحاكاة الرقمية” لإعادة بناء معارك العبور بكل تفاصيلها، بما في ذلك الظروف الجوية واستراتيجيات العدو، لإثبات عبقرية التخطيط المصري ودقته الميدانية، أما “أنظمة المعلومات الجغرافية” فقد أعادت رسم خرائط الحرب تفاعلياً، بحيث يمكن تتبع تحركات القوات ساعة بساعة، مع طبقات بيانات توضّح خطوط الإمداد وكثافة النيران، لتتحول معركة أكتوبر إلى نموذج تحليلي يُدرّس في العلوم العسكرية الحديثة، كذلك أتاح تحليل البيانات والاتصالات العسكرية من خلال “تقنيات الذكاء الاصطناعي وتحليل الشبكات” رسم صورة واضحة لبنية القيادة المصرية وسرعة اتخاذ القرار، وهو ما أثبت أن الجيش المصري خاض المعركة كجسدٍ واحدٍ ينبض بعقيدة وطنية راسخة.
لم تعد قصص الأبطال تُروى في الكتب فحسب، بل أصبحت محفوظة في قواعد بيانات رقمية حيّة، فبجهود متكاملة بين وزارات ومؤسسات وطنية، أُنشئت “قاعدة بيانات شاملة” تضم أسماء الشهداء والمقاتلين، وتتيح لأسرهم تحميل صورهم ومذكراتهم الشخصية لتكوين “ملف رقمي خالد” لكل بطل، وتحولت البطولات الفردية إلى محتوى بصري جاذب من خلال “الإنفوجرافيك والجرافيك التفاعلي”، الذي يعرض العمليات العسكرية المعقدة بلغة بصرية بسيطة ومؤثرة.
بل وصل الأمر إلى استخدام “الذكاء الاصطناعي وتقنيات التعرف على الوجوه” في الصور الأرشيفية لتحديد هوية بعض الأبطال غير المعروفين، وإعادة تخليد ذكراهم في ذاكرة الوطن الرقمية.
في الذكرى الثانية والخمسين لحرب أكتوبر المجيدة، تبدو التكنولوجيا وقد لعبت دوراً بطولياً موازياً في معركة الذاكرة، لقد عبر الجيش المصري قناة السويس عام 1973 لاستعادة الأرض والكرامة، وتعبر التكنولوجيا اليوم قناة الزمن لتعيد إحياء النصر للأجيال القادمة، بلغة يفهمها العالم الرقمي..وهكذا أصبحت تكنولوجيا المعلومات في مصر “جسر الخلود الوطني” الذي يحمل ذكرى أكتوبر من الماضي إلى المستقبل، لتظل قصة النصر محفورةً في “ذاكرة رقمية” لا تنطفئ، تُعلم الأجيال معنى الإصرار، وتُخلّد بطولة لا يطويها الزمن.