
لم تكن كرة القدم في أي وقت مجرد منافسة رياضية، بل كانت ظاهرة اجتماعية وثقافية عابرة للطبقات والحدود، لعبة خرجت من الأزقة الشعبية إلى الملاعب الكبرى، ثم تسللت إلى بيوت الملايين عبر شاشات التلفزيون، لتصبح جزءًا من الذاكرة الجمعية للأسر العربية، وطقسًا ينتظره الجميع بشغف..غير أن هذه العلاقة الحميمة بين الكرة وجمهورها بدأت تتصدع تدريجيًا، منذ أن دخلت اللعبة مرحلة الاحتكار الإعلامي، وتحولت متعتها من حق جماهيري واسع إلى خدمة مدفوعة لا يحصل عليها إلا القادرون.
مع ظهور شبكات التلفزيون المدفوع في العالم العربي، وتحديدًا تجربة شبكة ART في أواخر التسعينيات، لم يكن المشهد صادمًا بالقدر الذي نشهده اليوم، فقد جاء النموذج آنذاك في سياق مختلف؛ كانت الأسعار في متناول شريحة واسعة، وكانت القنوات المجانية لا تزال شريكًا، كما أن فكرة “الحقوق الحصرية” لم تصل بعد إلى حد الإغلاق الكامل للشاشة، ورغم أن ART دشنت لأول مرة مفهوم الاشتراك وفك التشفير، فإنها لم تعلن القطيعة بين كرة القدم والجمهور.
التحول الحقيقي والخطير جاء لاحقًا، مع انتقال الحقوق إلى شبكات أكبر، وصولًا إلى نموذج الاحتكار شبه الكامل الذي فرضته شبكات مثل beIN Sports، هنا لم يعد أمام المشاهد خيارات متعددة، بل أمام مسار واحد لا بديل عنه: الدفع مقابل كل شيء، كأس العالم، البطولات القارية، دوري أبطال أوروبا، الدوريات الكبرى، وحتى بعض البطولات العربية، أصبحت جميعها حكرًا على شاشة واحدة، باشتراك مرتفع، ونظم تقنية معقدة، لا تراعي الفوارق الاقتصادية بين جمهور اللعبة في المنطقة العربية.
ومع التحول إلى البث الرقمي، لم تتغير الفلسفة بقدر ما تغيرت الوسيلة، ظهرت منصات وتطبيقات بث رياضي تحت شعارات الحداثة والتطوير، لكنها أعادت إنتاج النموذج نفسه: محتوى حصري، مشاهدة مشروطة، وحرمان كامل لمن لا يملك القدرة على الاشتراك أو المتطلبات التقنية، بل إن التجربة الجديدة أضافت عبئًا آخر، حين ربطت المتعة بجودة الإنترنت، ونوع الجهاز، وأحيانًا بالموقع الجغرافي، لتصبح مشاهدة مباراة كرة قدم عملية معقدة لا تشبه بساطتها الأولى.
الخطر الأكبر لا يكمن في الدفع ذاته، بل في الإقصاء الاجتماعي، فعندما يُحرم ملايين المواطنين من متابعة منتخباتهم الوطنية أو أنديتهم التاريخية، فإننا لا نتحدث عن ترف مفقود، بل عن تفكك رابط ثقافي كان يجمع المجتمع..كرة القدم، التي طالما وحّدت الشارع والمقهى والمنزل، تحولت إلى منتج نخبوِي، تُستهلك داخل دوائر ضيقة، بينما يُترك باقي الجمهور خارج المشهد.
وفي ظل هذا الواقع، لم يكن مفاجئًا أن تنتشر وسائل المشاهدة غير القانونية، من بث مقرصن وروابط غير شرعية وأجهزة معدلة، وإن كان ذلك مرفوضًا من حيث المبدأ، إلا أنه في جوهره نتيجة طبيعية لسياسات الإغلاق والاحتكار، وليس مجرد نزعة مخالفة للقانون..فعندما تُغلق النوافذ المشروعة أمام جمهور واسع، سيبحث هذا الجمهور عن أي منفذ بديل، مهما كانت مخاطره.
المفارقة اللافتة أن الجهات التي تخوض حربًا مفتوحة ضد القرصنة، هي ذاتها التي أسهمت في خلق بيئتها؛ فالاحتكار الكامل، ورفع كلفة المشاهدة، وحرمان البث المفتوح حتى في الأحداث العالمية، كلها عوامل غذّت سوقًا موازية يصعب القضاء عليها.
لا أحد ينكر أن كرة القدم أصبحت صناعة ضخمة، وأن الحقوق الإعلامية تمثل عصبًا اقتصاديًا رئيسيًا، لكن اختزال اللعبة في منطق الربح وحده، دون مراعاة بعدها الجماهيري والثقافي، يهدد جوهرها، فالكرة التي وُلدت في الشارع، لا يمكن أن تعيش طويلًا خلف جدار من الاشتراكات المرتفعة، وإذا استمر هذا النهج، فإن الخسارة لن تكون حكرًا على الجمهور، بل ستطال اللعبة نفسها، وتفقدها روحها، وتُفرغها من معناها الاجتماعي الأوسع.







