بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} صدق الله العظيم
كان فضل الله علىّ عظيما..لم أتعامل معها يوماً على أنها شقيقتى الكبرى، بل كانت مرآتى..أحدث نفسى عندما أتحدث إليها، على الرغم من تواضع ثقافتها إلا أنها كانت الملجأ والمأوى والملاذ فى أسعد الأوقات وأتعسها.
هى شقيقتى الكبرى.. أو بالأحرى أمى الحقيقية التى أنعم الزمان بها علىّ، كانت أذن صاغية وقلب واسع حنون، ينفذ لى مطالبى حتى ولو كانت مستعصية أو غير صحيحة، كان لها نصيب كبير من الصبر فى أسمها وحياتها كلها.
حملت مع والدتى “رحمة الله عليهما” هموم وشظف الحياة، منذ نعومة أظافرها فطمت على “حمل الهموم”، أضائت الشمعة التاسعة من عمرها فى ذات التوقيت الذى صدمتها فيه الدنيا بحادثة بقيت آثارها معها حتى توارت فى الثرى، وكانت الحادثة الأخرى التى أصابتها لحظة علمها بوفاة والدها ذات تأثير أكبر وأكثر وجعاً وإيلاماً لها طيلة حياتها..ومع هاتين الحادثتين أكملت “الصبورة” حياتها محتسبة وراضية.
وكأن الدنيا لم تكتف بما فعلته بالصغيرة الصبورة، وزادت عليها الصاع عشرة، فلم تمنحها نعمة الأبناء، بل وكانت حياتها الزوجية مريرة إلى أقصى الحدود، ومع ذلك أفاض عليها الله بسيول من الصبر، فلم تكن جازعة ولا يائسة، بل كانت عاملة بمقولة الإمام على بن أبى طالب كرم الله وجهه: “إعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا”.
وهبها الله فى عقدها الخامس حج بيته المحرم، كانت فرحتنا لا توصف بأن عوض الله عليها وربت على قلبها، إلا أن فرحتنا سرعان ماتحولت إلى كابوس رهيب، حيث أصيبت بغيبوبة السكر على جبل عرفات، وتركها زملائها ورفاقائها لا أدرى كيف ولماذا، حتى عثر عليها البعض وذهبوا بها إلى مستشفى ميدانى متواضع مكثت فيه قرابة 10 أيام حتى بدأت فى إستعادة وعيها، كل هذا ونحن لاندرى أين ذهبت بعد أن إنقطعت أخبارها، وعادت من المملكة إلى مطار القاهرة إلى المستشفى مباشرة لتمكث أسبوعين بها للتخلص من السموم التى لحقت بالدم جراء إرتفاع مستويات السكر به..فكانت رحلة عناء أسأل الله أن يجعلها فى ميزان حسناتها.
كان بينها وبين أمى “رحمة الله عليهما” سر لا أعلمه، ولا يعلمه إلا الله، حبل متصل ينقل الأحاسيس لحظياً على بعد مئات الكيلومترات بمنظومة أفضل من الهواتف المحمولة وموجات اللاسلكى، حتى إن آخر ماتفوهت به أمى قبل إنتقالها إلى الرفيق الأعلى: “ربنا معاكى ياصبرية”.
فى صغرى عاملتنى صبرية كأم حنون، أشهد الله أنها لم تعنفنى يوماً أو ترفض لى طلب، بل كانت تحقق لى أمنياتى أو أى من إخوتها حتى وإن كانت صعبة عليها فى ظل ظروف طاحنة، واستمرت طيلة حياتها كذلك، إلا أنها بدلت الأدوار مع البقاء على عناصر التضحية لديها عندما كبرت..وكبرت أنا.
كانت تستشيرنى فى كافة أمور حياتها، لم تغادر باب شقتها يوماً دون أن تخبرنى وتستأذننى، لم تكن تجزع من مصائب الحياة أبداً، أذكر أن المصائب كانت تترى عليها من كل صوب وهى ثابتة صابرة على يقين ورضا بقضاء الله وقدره.
أصابتها أمراض عدة فى القلب والصدر مع بدايات العام 2018، وترددنا كثيراً على الأطباء، ووصل الأمر إلى إحتجازها بالمستشفى فى أول أيام شهر رمضان حتى قبيل عيد الفطر باسبوع واحد، وتماثلت للشفاء تماماً، وعادت إلى منزلها مشرقة، وظلت على هذه الحال حتى أنقضت أيام عيد الاضحى فى العام ذاته.
اعتادت بعد وفاة امى -صديقتها ورفيقة دربها- أن تشاركنى وجبة العشاء، وبعد ان تحتسى كوب الشاى تنزل لتقبع وحيدة بشقتها، وفى مساء يوم ٢٠ يونيو تناولت عشائها معى واسرتى، وذهبت إلى حجرة مكتبى لتتطلع من نافذتها إلى الشارع، وظلت على حالتها هذه ساعات، ثم ودعتنى لتذهب إلى شقيقي القاطن فى الشقة التي تعلونى، ثم إلى شقيقي الاكبر بالدور الثالث، ثم أختى الصغرى القاطنة فوقه، ثم إلى الرووف.
فى السادسة صباح يوم ٢١ يونيو ٢٠١٨ نزلت للاطمئنان عليها فلم أجدها، صعدت حتى وصلت إلى الرووف، وجدتها هناك، آلالام معدتها لم تمكنها من النزول، ساعدتها حتى نزلت، واطمئننت أنها ذاهبة لتخلد للنوم..لم أكن أعلم انها ستكون آخر مرة أراها وأحدثها فيها.
وبعد أيام قلائل من نهاية عيد الاضحى، وفى يوم ٢١ يونيو من العام ٢٠١٨ أسلمت “صبرية” روحها فى هدوء وسكينة إلى بارئها، وحيدة ماتت كما عاشت معظم سنوات عمرها وحيدة، دون صخب أو ضجيج فارقت دنيانا كما كانت تعيش هادئة مسكينة، أحبها كل من عرفها حتى أننى تلقيت عزائها من عشرات الأماكن، الجيران والمعارف فى القاهرة وسوهاج وغالبية محافظات الجمهورية، ومن المملكة العربية السعودية والكويت وقطر..كل من عرفها لم ينكر فضلها.
ماتت صديقتى وحبيبتى الغالية..واليوم تمر فى هدوء ذكرى وفاتها الخامسة، رحمة الله عليكى يا شقيقتى الصبورة الصابرة، غفر الله لك ورحمك وتجاوز عن سيئاتك وأسكنك فسيح جناته مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصابرين والابرار..وحسن أولئك رفيقا.