
تساؤل “لولبي”: إلى أي مدى استفادت المؤسسات والهيئات الحكومية العملاقة -خاصة المالية منها- من قواعد الشمول المالي وأنظمة الذكاء الاصطناعي وعمليات رقمنة الخدمات؟، وهل نعيش فعلًا مرحلة التحول الرقمي التي يرفع الجميع شعاراتها، أم أننا ما زلنا عالقين في مرحلة “التطبيق لا يعمل والخدمة لا تُرد”؟.
هذه التساؤلات لم تأتِ من فراغ، بل من تجربة واقعية مع أحد البنوك الحكومية الكبرى، حيث توقف تطبيقه الإلكتروني عن العمل منذ فترة، محاولات تسجيل الدخول تنتهي بالفشل، والاتصال بخدمة العملاء لا يزيد الأمر إلا تعقيدًا؛ ساعات من الانتظار على الهاتف، ليأتي الرد: “هتوصلك رسائل اتبع خطواتها”..لكن المفارقة أن الرسائل تصل بعد انتهاء صلاحيتها، لتصبح بلا جدوى.
المشهد الأكثر غرابة حدث حين لجأت إلى فرع البنك وجلست مع “مدير خدمة العملاء وسفير الخدمات الرقمية”، توقعت حلولًا مبتكرة من صاحب هذا المنصب الرنان، لكنه كرر التجربة نفسها: الاتصال بخدمة العملاء والانتظار على “الويتنج”، حيث جلسنا نستمع معًا إلى الأغنية الشهيرة: “لايوم سلمت ولا استسلمت…”، لحظة ساخرة لكنها تختصر واقع التحول الرقمي حين يتحول من وعد إلى معاناة.
قد يظن البعض أن هذه تفاصيل هامشية، لكنها في الحقيقة تحمل تكلفة اقتصادية باهظة، تعطل الخدمات الرقمية يؤدي إلى خسائر في الإنتاجية، ويهدر وقت العملاء والموظفين، ويضر بثقة الجمهور في المؤسسات المالية، كل دقيقة انتظار ليست مجرد ضياع وقت فردي، بل تتحول إلى خسارة تراكمية على الاقتصاد الكلي، فكيف يمكن الحديث عن اقتصاد رقمي تنافسي بينما يقضي العملاء ساعات في الانتظار من أجل رسالة “Expired”؟.
والمفارقة أن التكنولوجيا ذاتها ليست المشكلة، فاليوم تُدار أنظمة أكثر تعقيدًا في قطاعات أخرى بكفاءة عالية، الخلل الحقيقي يكمن في إدارة التكنولوجيا: ضعف الصيانة، غياب المتابعة، انفصال الإدارة العليا عن تجارب العملاء اليومية، تناقض فلسفي لافت: نرفع شعار “الذكاء الاصطناعي”، بينما نعجز عن تشغيل تطبيق أساسي لخدمة ملايين العملاء.
وفي المقابل، نرى بنوكًا مثل DBS في سنغافورة أو BBVA في إسبانيا لم تكتفِ بإطلاق تطبيقات، بل أعادت صياغة نموذج العمل بالكامل على أساس رقمي، هناك، العميل لا ينتظر، بل يتلقى الدعم الفوري عبر المساعدات الافتراضية وأنظمة الذكاء الاصطناعي، وفي بنوك كوريا الجنوبية وإستونيا، أصبحت الفروع التقليدية شبه خاوية من المواطنين، حيث تتم كل المعاملات رقميًا، من فتح الحساب إلى الحصول على القروض، الفارق هنا ليس في التكنولوجيا بقدر ما هو في العقلية الإدارية؛ إدارة تعتبر أن احترام وقت العميل جزء من فلسفتها المؤسسية.
الرقمنة ليست مجرد تطبيقات أو شبكات، بل ثقافة تبدأ من تدريب الموظفين وإدارة الموارد البشرية، وتنتهي بقدرة المؤسسة على تبني التغيير كنهج يومي، فالتقنية لا تخون، إنما يخون سوء إدارتها.
إن التحدي الحقيقي أمام البنوك والمؤسسات المالية في مصر ليس إطلاق مبادرات جديدة أو مؤتمرات حول الرقمنة، بل تحويل التجربة الرقمية إلى واقع عملي يشعر به المواطن يوميًا، فلا معنى للذكاء الاصطناعي إن كان الحل الوحيد لموظف الفرع هو الاتصال بخدمة العملاء والانتظار على “الويتنج”.