ليلة شتوية من شتاء تسعينات القرن الماضى..كانت الساعة تقترب من الثانية بعد منتصف الليل، بالكاد كنا إنتهينا من حضور حفل زفاف شقيق صديقنا حاتم، والذى أقيم بمنطقة شبرا الخيمة حيث تقع شقة عرسه، وبرزت مشكلة كبيرة؛ إذ كيف يمكن أن اصل إلى منزلى الكائن فى شبرا مصر حيث إنتهت الحياة تقريباً من الشوارع، لا أتوبيسات ولا ميكروباص ولا حتى تاكسى، ألح على صديقى جمال أن أبيت معه حتى الصباح فى شقته القريبة، وبالفعل كان هذا هو الحل الأمثل، إلا أن المشكلة الكبرى كانت أن أمى لا تعلم بهذا القرار، وليس من المعتاد أن أبيت خارج منزلى..فكيف أخبرها.
ملئت الحيرة عقلى، كيف أتصرف، بمنتهى السخرية قال لى جمال: “إتصل بيهم”، كيف أتصل بهم، الوقت متأخر على أن أتصل بصديقى خالد الذى يقطن على بعد 500 متر من منزلى ليذهب ليخبرهم كما أعتدنا، فأستكمل جمال: “اتصل بيهم على تليفونكم”..!!
هنا كانت المفاجأة؛ نسيت أن التليفون الأرضى قد تم توصيله بالفعل منذ عدة أيام، واصبحنا من المتميزين الممتلكين لهاتف أرضى، وجاء كل جيراننا فى العمارة والعمارات المجاورة لتهنئتنا، وتم توزيع الرقم عليهم حتى يمكنهم التواصل مع أقاربهم، وحظى هذا التليفون بقاعدة “شيك” وضعت فى مكان مرموق فى زاوية محترمة.
نسيت أننا إمتلكنا هاتف أرضى لأن أخى كان قد قام بكتابة الطلب منذ 15 سنة..تخيلوا، كان الحال هكذا فى الماضى، أسجله هنا حتى يطلع عليه أبناء الجيل الحالى الذى نشأ على الموبايل وتربى على الانترنت وترعرع على السوشيال ميديا.
موقف آخر لن أنساه؛ حينما حاولت التواصل عبر الانترنت للمرة الاولى فى حياتى، فقمت بتوصيل سلك الهاتف الأرضى على “كيسة” الكمبيوتر، وبدأت فى محاولة تصفح ذلك الوافد الجديد المعروف بالشبكة العنكبوتية، ولن أخفيكم سراً أننى كنت أطلب الموقع المحدد وأقوم لأتوضأ أو أصلى ثم أعود وصفحة الموقع لازالت فى طور التحميل، سرعات تقاس بالكيلو بيت..آه والله زى مبقولكم.
التطور الذى حدث فى الحياة تكنولوجياً رهيب، وأغلب ظنى أن كثيراً من جيلى لم يستطيعوا ان يجاروه حتى اللحظة، أصبحت التكنولوجيا تدير كل شئ، والراغب عنها فلينتظر دوره فى أن تطأه عجلة التاريخ ويصير فى غيابات النسيان.
كل شيئ تغير خلال سنوات معدودة، وتسارعت وتيرة التطور، وأصبحت سرعات الانترنت حالياً تصل إلى التيرابيت، وأصبح الهاتف المحمول فى يد كل مواطن تحقيقاً للشعار الذى أطلقته إحدى الشركات عند بداية إطلاق الخدمة، وأصبحت الخدمات تقدم للمواطنين عبر الانترنت وفى مكانهم عبر الهاتف المحمول..ثورة تكنولوجية تقودها قيادة سياسية حكيمة.