
في لحظة احتفال وفخر بمتاحفنا وبتاريخنا، تحولت آلاف — بل ملايين — الوجوه المصرية إلى أيقونات فرعونية عبر تطبيقات الذكاء الاصطناعي.. صورة شخصية هنا.فلترٌ هناك، ومشاركةٌ ساخنة على فيسبوك أو تيك توك تُسجِّل الإعجاب والتعليقات وتُشعل الحماس. لكن تحت بريق الذهب والـ«لوك» التاريخي، تترسّخ مشكلة أكبر من مجرد لعبة مرحة: منحنا بياناتنا البيومترية بأبسط صورة ممكنة، وبسذاجة قد تتحول إلى كارثة.
الوجه ليس مجرد صورة؛ هو مفتاح. بصمة الوجه تحولت في سنوات قليلة إلى معيار للتحقق من الهوية في هواتفنا الذكية، وفي بوابات المصارف، وفي أنظمة الأمن.
عندما تُحمِّل صورتك أو تسمح لتطبيق أن يُحلل وجهك ليحوِّلك إلى “ملك” أو “فرعونة”، فأنت — غالبًا دون أن تدري — تُقدِّم بيانات يمكن تحويلها إلى نموذج قابل لإعادة الاستخدام: ملف بصري عن شكل وجهك، زواياه، تحركاته، تعابيره. هذه البيانات ليست ترفاً وإنما أصولٌ رقمية ذات قيمة هائلة.
الشركات المطوِّرة، منصات التحويل، وكل خادمٍ تقرر خزن الصورة عليه يصبح — نظريًا — مالكاً أو حارساً على جزء من هويتك الرقمية.
وفي عالم تُسود فيه صفقات البيانات والبيع لإطارات تدريب الذكاء الاصطناعي، يصبح السؤال الأكثر إلحاحًا: هل وُضِعَت موافقات واضحة؟ هل فَهِم المستخدمون أن صورهم قد تُستخدم لتدريب نماذج تُستخدم لاحقًا في أنظمة التعرف على الوجه؟ كثيرون تلقوا شروطاً عامة مطوَّلة لا يقرأها أحد. وهنا تقع المشكلة: موافقة مغلفة وغامضة تُحوّل فعل المشاركة إلى استسلام.
التقنيات تتطوّر بسرعة: نماذج “التزييف العميق” (deepfakes) تحوّل الصور الثابتة إلى فيديوهات حركة واقعية، وأنظمة الـspoofing قادرة على خداع حساسات التعرف على الوجه.
تخيل الآن أن صورك الفرعونية سُلِّمت لمختبرات تدريب نماذج، فظهرت فيما بعد فيديو مزور لك يتضمن ما لم تقله أو لم تفعله — أداة فعّالة للابتزاز السياسي والاجتماعي والمالي. أو أن تُستخدم هذه البيانات لتجاوز أنظمة التحقق في حسابات أو خدمات مهمة. النتيجة: خسارة للخصوصية قد تتحول إلى خسارة للمال، السمعة، والأمان الشخصي.
اللوم ليس موجهاً فقط للأفراد. حتى المتخصصون بالخصوصية والأمن السيبراني، الذين يُفترض أنهم الأعلم بحجم المخاطر، أخفقوا في كثير من الأحيان. لِمَ؟ لأن العديد منهم شاركوا بنفس الحماس في هذه الظاهرة الاحتفالية. ربما لأن الرغبة في المُشاركة الثقافية كانت أقوى من الحذر المهني. ولكن ما نحتاج تذكُّره هو أن الخبرة لا تعفِ من المسؤولية: إن كان الخبراء أول من خلع «المفتاح الرقمي»، فكيف نتوقع من عامة الناس الحذر؟
الخدع البصرية والفلاتر تمنح شعوراً بالانتماء والمرح، وتُعيدنا إلى ماضٍ عظِمَ بـ«لوكات» ساحرة. لكن السهولة التي تُصبح بها صورة لطيفة إلى مادة تدريبية تُنتج نموذجاً يمكن تكراره واستخدامه تُحوّل متعة إلى مخاطرة. نُفقد السيطرة على نسخة رقمية عن وجهنا لا تُشترط عليها حدود زمنية أو مكانية — هي موجودة في قواعد بيانات لا نعرف مَن يديرها.
نصيحة..خطوات واقعية لحماية الهوية:
1. اقرأ بنية الشروط قبل الموافقة: عبارات مثل «نحتفظ بالملكية» أو «نستخدم بياناتك لتدريب نماذجنا» تعني أن صورتك قد تُستخدم لاحقًا بطرق لا تتوقعها.
2. تجنّب رفع صور واضحة لوجهك إلى منصات مجهولة: استخدم تحديثات التطبيقات الكبيرة الموثوقة فقط، ولا تُحمّل صورك في مسابقات أو تطبيقات جديدة بلا ضمانات خصوصية واضحة.
3. استخدم إعدادات الخصوصية: على منصات التواصل، غيّر إعدادات إمكانية الوصول للصور وحذف الألبومات بعد المشاركة إن أمكن.
4. مطالبة بالشفافية: الشركات يجب أن توفّر تقارير عن كيفية استخدام البيانات، ومدى تخزينها، ومن الذي يمكنه الوصول إليها.
5. تشريعات عادلة وحازمة: مطلوب تشريع يحرم بيع أو نقل بيانات بيومترية دون موافقة صريحة ومحددة المدة والغاية.
6. ثقافة رقمية واعية: التعليم الرقمي يبدأ من المدارس ويجب أن يتضمّن معلومات عملية عن حقوق البيانات والخصوصية.
لا يكفي أن ننبّه؛ توعية الجمهور بلغة يفهمها، مهمتنا الملحة، علينا أن نُثبت أن الفخر بتاريخنا لا يجب أن يتحوّل إلى تنازل عن مستقبلنا الرقمي، الفراعنة بناؤوا حضارة بآلاف السنين – لا ندع حماسنا الرقمي اليوم يهدم حقوقنا الرقمية غداً.
إعادة تشكيل الهوية إلى رمز تاريخي تجربة ممتعة، لكنها لا تُبرّر منح مفاتيح حياتنا الرقمية لأي طرف يمرّ على شبكة الإنترنت. الاحتفال بالمتحف الكبير واجب وطني وثقافي، لكن الاحتفال بوجوهنا لا ينبغي أن يكون تراجيديا لحقوقنا. فلنحتفل بحِذَر، ولنطالب بالمساءلة: خصوصيتنا ليست ترفاً يمكن التبرع به، إنها حقٌ أساسي وحاجة أمنية وحضارية.







