رقمنة “ذاكرة الأمة”..رؤية رئاسية لحفظ التراث الإذاعي والمقروء وتعزيز الحضور الرقمي

في خطوة استراتيجية تعكس وعي القيادة السياسية بقيمة الإرث الإعلامي المصري ودوره في تشكيل الهوية الوطنية، وجّه الرئيس عبد الفتاح السيسي بضرورة الإسراع في رقمنة الأرشيف الإذاعي والتلفزيوني المصري، وتحويله إلى وسائط رقمية تحفظ المحتوى للأجيال القادمة، مع استثماره عبر منصة رقمية حديثة تُنشئها الهيئة الوطنية للإعلام، لتصبح نافذة عالمية للتاريخ الإعلامي المصري.
حفظ التراث الإعلامي: مسؤولية وطنية
يُعد التراث الإذاعي والتلفزيوني المصري من الكنوز الثقافية والإنسانية، إذ يوثق عقودًا من العمل الإعلامي منذ بدايات البث الإذاعي في ثلاثينيات القرن الماضي، مرورًا بإطلاق التلفزيون المصري عام 1960، ووصولًا إلى العصر الرقمي. هذا التراث يضم تسجيلات نادرة للأحداث التاريخية، والخطب الرئاسية، والبرامج الثقافية والفنية، والأعمال الدرامية، فضلًا عن إرث إذاعة القرآن الكريم التي تأسست عام 1964، والتي حفظت أصوات القراء والمبتهلين على مدى ستة عقود.
الرئيس السيسي شدد خلال اجتماعه مع الدكتور عمرو طلعت وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، وأحمد المسلماني رئيس الهيئة الوطنية للإعلام، على أن هذه المادة ليست مجرد تسجيلات، بل هي “ذاكرة الأمة”، ويجب حمايتها من التلف المادي وفقدان الجودة الناتج عن تقادم الوسائط التقليدية.
الرقمنة: من الحفظ إلى الاستثمار
تتجاوز رؤية الدولة المصرية في رقمنة الإعلام فكرة الحفظ فقط، بل تمتد إلى استثمار المحتوى على منصات رقمية حديثة، تتيح للجمهور داخل مصر وخارجها الوصول السهل والآمن لهذا الإرث. المنصة الرقمية المزمع إطلاقها عبر الهيئة الوطنية للإعلام ستوفر خدمات مشاهدة واستماع أرشيفية متطورة، مع إمكانات البحث الذكي، وإعادة توزيع المحتوى بما يتوافق مع متطلبات سوق الإعلام الرقمي.
دور وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات
وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، برئاسة الدكتور عمرو طلعت، تضطلع بدور محوري في هذا المشروع الوطني، من خلال توفير البنية التحتية التكنولوجية، وحلول الحوسبة السحابية، وتقنيات الذكاء الاصطناعي التي تُسهم في ترميم وتحسين جودة المواد الصوتية والمرئية القديمة.
كما تعمل الوزارة على وضع معايير تقنية لضمان استدامة البيانات الرقمية، وحمايتها من القرصنة أو التلف، وهو ما يجعل المشروع ليس مجرد نقل للأرشيف، بل إعادة إحياء له بأعلى جودة ممكنة.
الاهتمام الرئاسي بالإعلام والرقمنة
اهتمام الرئيس عبد الفتاح السيسي بالإعلام الرقمي لم يكن وليد اللحظة، بل يندرج ضمن استراتيجية أوسع للتحول الرقمي في مختلف قطاعات الدولة. فقد سبق وأن وُجّهت الحكومة بإطلاق منصات رقمية لتوثيق التراث الثقافي والفني، وتطوير البنية الإعلامية بما يتواكب مع الثورة التكنولوجية العالمية.
هذا الاهتمام يعكس إدراك القيادة لأهمية الإعلام الرقمي في تعزيز القوة الناعمة المصرية، وتقديم صورة حضارية عن مصر للعالم، فضلًا عن حفظ الهوية الوطنية في ظل التغيرات الإعلامية المتسارعة.
إذاعة القرآن الكريم: نموذج للإرث الروحي والثقافي
تولي الدولة اهتمامًا خاصًا بإذاعة القرآن الكريم، التي تمثل أيقونة إذاعية مصرية وعربية. وقد وجّه الرئيس بإنشاء موقع عالمي خاص بالإذاعة، ليكون مركزًا رقميًا لحفظ تراث القراء والمبتهلين، وإتاحة الأرشيف الكامل للبرامج التي بثتها الإذاعة منذ تأسيسها، مما يفتح المجال أمام الأجيال الجديدة للاستفادة من هذا الإرث الروحي والفني.
التحديات وآفاق المستقبل
رغم ضخامة المشروع، فإن التحديات التقنية واللوجستية يمكن تجاوزها بفضل التعاون بين المؤسسات الإعلامية والتكنولوجية، والدعم السياسي الواضح، ويتوقع خبراء الإعلام أن تسهم هذه المبادرة في فتح آفاق اقتصادية جديدة عبر تسويق المحتوى الأرشيفي، وجذب الجمهور العالمي، ودعم صناعة المحتوى المحلي.
بهذه الخطوة، تضع مصر نفسها في مصاف الدول التي تدرك قيمة الماضي وتستثمر فيه لصناعة المستقبل، مؤكدة أن الإعلام الرقمي ليس فقط أداة للتواصل، بل جسرًا لحفظ الذاكرة الوطنية وتعزيز الهوية الثقافية في العصر الرقمي.
الخبراء: الرقمنة ضرورة استراتيجية لا تحتمل التأجيل
يرى خبراء الإعلام أن خطوة رقمنة الأرشيف الإذاعي والتلفزيوني المصري تمثل نقلة نوعية في الحفاظ على التراث الوطني، إذ يحذر الدكتور محمود خليل، أستاذ الصحافة بجامعة القاهرة، من أن: “الأشرطة القديمة عرضة للتلف وفقدان الجودة مع مرور الزمن، وأي تأخير في نقلها إلى وسائط رقمية يعني فقدان جزء من ذاكرة مصر الإعلامية”.
ويضيف أن المشروع لا يقتصر على الحفظ، بل يفتح الباب أمام “اقتصاد المحتوى”، حيث يمكن إعادة استخدام المواد الأرشيفية في الإنتاجات التلفزيونية، والتعليم الإلكتروني، وصناعة الأفلام الوثائقية.
أما المهندس أحمد نجيب، خبير التحول الرقمي، فيشير إلى أن: “دور وزارة الاتصالات هنا يتجاوز الدعم التقني، فهو يشمل أيضًا بناء قواعد بيانات مؤمنة، وتطوير محركات بحث ذكية داخل المنصة الرقمية، وهو ما سيجعل الوصول للمحتوى أكثر سهولة ودقة”.
مقارنات دولية: BBC وINA كنموذجين ملهمين
لتوضيح أهمية المشروع المصري، يمكن النظر إلى تجارب عالمية ناجحة:
هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) بدأت منذ تسعينيات القرن الماضي في رقمنة أرشيفها الصوتي والمرئي، وأطلقت منصة BBC Archive التي تتيح للجمهور آلاف المواد التاريخية.
المعهد الوطني الفرنسي للسمعيات والبصريات (INA) قام برقمنة ملايين الساعات من البث الإذاعي والتلفزيوني الفرنسي، ويعد الآن مرجعًا أكاديميًا وإعلاميًا عالميًا.
هذه التجارب تثبت أن رقمنة الأرشيف الإعلامي ليست فقط مشروعًا ثقافيًا، بل أيضًا استثمارًا اقتصاديًا وبحثيًا طويل المدى.
البعد الثقافي والهوية الوطنية
ترى الدكتورة ليلى عبد المجيد، عميدة كلية الإعلام الأسبق، أن المشروع يعزز القوة الناعمة المصرية، موضحة أن “الإعلام المصري كان على مدار عقود منصة العرب الأولى، وأرشيفه يحوي لحظات فارقة من التاريخ العربي، من خطب الزعماء إلى الأعمال الفنية التي شكلت وجدان أجيال”.
وتؤكد أن رقمنة هذا المحتوى وإتاحته عالميًا سيعيد لمصر دورها الثقافي والإعلامي الرائد، خاصة في ظل المنافسة الشرسة على الفضاء الرقمي.
فرص اقتصادية وسوق عالمي للمحتوى
من الناحية الاقتصادية، يفتح المشروع أبوابًا جديدة لصناعة الإعلام الرقمي، عبر بيع أو ترخيص استخدام المواد الأرشيفية للمنصات العالمية، أو إدماجها في إنتاجات جديدة. كما يمكن استهداف أسواق الجاليات المصرية والعربية بالخارج، التي تبحث دائمًا عن محتوى يوثق جذورها الثقافية.
رؤية مستقبلية: من أرشيف مغلق إلى منصة عالمية
إذا نجح المشروع في تحقيق أهدافه، ستتحول مكتبات الإذاعة والتلفزيون المصري من أرفف مغلقة إلى منصة حية تفاعلية، تتيح للمواطنين والباحثين والإعلاميين حول العالم الوصول إلى تاريخ مصر بالصوت والصورة، وتعيد الاعتبار لقيمة الإعلام كمخزن للذاكرة الوطنية.
بهذه الخطوة، تؤكد مصر أن حماية التراث الإعلامي ليست رفاهية، بل واجب وطني واستثمار في المستقبل، وأن الرقمنة ليست خيارًا، بل ضرورة لحفظ الماضي وتمهيد الطريق نحو إعلام حديث قادر على المنافسة عالميًا.