
في زمن تتدفق فيه المعلومات بلا انقطاع، لم يعد التضليل مقصورًا على “الفبركة الكاملة” أو صناعة الأكاذيب من العدم، بل برزت أساليب أكثر دهاءً تقوم على إعادة توظيف الحقيقة نفسها في سياق زائف، ومن أخطر هذه الأساليب ما يُعرف بـ”التضليل بالمصدر”، حيث تُستخدم صور أو فيديوهات أو تصريحات حقيقية، لكن تُنتزع من إطارها الأصلي بإستخدام وسائل التكنولوجيا الحديثة وتُسقط على واقع مختلف يمنحها معنى مغايرًا تمامًا..”جيل الغد” ترصد هذه الطرق فى التقرير التالي:
تقول منظمة “فيرست درافت نيوز”، فى دراسة موسعة لها أن هذا النوع من التضليل خطير لأنه يمنح الادعاءات الكاذبة غطاءً من المصداقية الظاهرة؛ فالمحتوى في ذاته قد يكون صحيحًا وموثقًا، لكن طريقة عرضه أو سياقه يحوله إلى أداة خداع يصعب كشفها بسهولة، فالتضليل بالمصدر يمثل التحدي الأخطر في عصر الإعلام المفتوح، فهو ليس كذبًا محضًا، بل تلاعب بالحقيقة نفسها، وكما أن الصورة المبتورة لا تكتمل إلا بإطارها، فإن الحقيقة لا تُفهم إلا في سياقها.
ويعد “التضليل بالمصدر” هو استخدام مادة أصلية صحيحة من حيث الشكل والمحتوى، لكن في إطار مضلل يُغيّب فيه الزمن أو المكان أو البعد الموضوعي، وعلى عكس التضليل المبني على اختلاق محتوى وهمي، فإن هذا الأسلوب يستند إلى حقائق قائمة بالفعل، مما يزيد من قوته في إقناع المتلقي، وذلك إما باستخدام معلومة صحيحة بشكل يُغيّر معناها الأصلي، أو بإعادة توظيف صورة أو تصريح أو فيديو صحيح في زمان أو مكان مختلف لخدمة رواية غير صحيحة.
وعلى سبيل المثال يعاد تداول تصريح قديم لمسؤول باعتباره جديدًا لدعم موقف راهن، أو نشر صور لأحداث سابقة فى أماكن أخري على أنها حدثت أو تحدث الآن فى مكان آخر، أو عرض إحصاءات من تقرير رسمي بشكل مبتور يغيّر الرسالة الأساسية، أو اقتباس جملة من خطاب طويل بحيث توحي بمعنى مخالف للمراد التحدث عنه، أو عرض بيانات حقيقية في إطار زمني أو بصري ناقص يؤدي إلى استنتاج خاطئ، وذلك يوضّح كيف تتحول “الحقيقة الموثقة” إلى وسيلة تضليل بمجرد نزعها من سياقها.
كذلك يتم إستخدام الوسائل التقنية فى “التضليل الإعلامي” عن طريق نقل تصريحات من لغة إلى أخرى بشكل يغياّر المعنى الأصلي، أو دمج مصدر حقيقي مع تعليق زائف بصورة صحيحة تُرفق بتعليق غير صحيح يقود الجمهور لتفسير خاطئ..ومع تطور الدراسات الإعلامية ظهر مصطلح “السياق المسلّح” الأكثر خطورة، حيث لا يكتفي المضِلّ بوضع المحتوى في سياق خاطئ، بل يوظفه عمدًا كسلاح لاستهداف أشخاص أو قضايا محددة.
وينصح الخبراء لمواجهة هذا النوع من التضليل بالتحقق من وقت نشر الصورة أو التصريح، ومحاولة الوصول إلى النسخة الكاملة والبحث عن المصدر الأصلي، والمقارنة مع المصادر الموثوقة والرسمية، واستخدام أدوات التحقق التقنية والرقمية..فالحقيقة المجتزأة قد تكون أخطر من الكذبة الصريحة، لأنها تحمل مظهر المصداقية وتغذي الانقسام وتوجّه الرأي العام في اتجاهات مضللة.
وفي مواجهة هذا الخطر المتنامي، تلعب وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات المصرية دورًا محوريًا في بناء بيئة رقمية آمنة قادرة على الحد من انتشار الأخبار المضللة والمعلومات المزيفة، فالمسؤولية لم تعد مقتصرة على المؤسسات الإعلامية أو منصات التحقق فحسب، بل أصبحت قضية أمن قومي رقمي تتطلب تدخلًا مباشرًا من أجهزة الدولة المعنية..وتعمل الوزارة على عدة مسارات متوازية:
التشريعات والسياسات: المشاركة في وضع أطر تنظيمية وقانونية لمكافحة جرائم المعلومات، بما يشمل نشر الأخبار الكاذبة أو التلاعب بالمصادر، مع تعزيز التعاون مع الجهات القضائية والأمنية.
البنية التحتية الرقمية: الاستثمار في منصات حكومية ذكية تعتمد على تقنيات الذكاء الاصطناعي لرصد المحتوى المضلل والتعامل معه بسرعة، سواء عبر التحذير أو الحجب أو توضيح الحقائق.
برامج التوعية: إطلاق حملات رقمية تثقيفية لتعزيز الوعي المجتمعي، تستهدف فئات الشباب وطلاب المدارس والجامعات، لتدريبهم على مهارات التحقق من المعلومات وتفادي الوقوع في فخ التضليل.
الشراكات الدولية: التعاون مع مؤسسات إقليمية وعالمية في مشروعات مشتركة لتبادل الخبرات في مجال أمن المعلومات والتحقق الرقمي، بما يعزز مناعة مصر الرقمية أمام موجات التضليل العابرة للحدود.
التمكين المجتمعي: دعم منظمات المجتمع المدني والمبادرات الشبابية التي تعمل في مجال التحقق من الأخبار وتعزيز التفكير النقدي.
من خلال هذه الجهود، تسعى الوزارة إلى تحويل مصر إلى بيئة رقمية محصّنة، حيث تصبح مواجهة التضليل مهمة جماعية تتشارك فيها الدولة مع المجتمع المدني والإعلام والجمهور..وهكذا، فإن المعركة ضد “التضليل بالمصدر” لا تُخاض فقط على مستوى المحتوى، بل أيضًا عبر بناء بنية تحتية تكنولوجية وتشريعية ومجتمعية قادرة على حماية الوعي العام من الاستهداف المتكرر.