أخبارالأرشيفتقارير
أخر الأخبار

أرقام صادمة: تأثير “المستشارون الجدد” على الحياة الأسرية في العالم العربي

لم يعد الغرباء يقتحمون بيوتنا من النوافذ أو الأبواب، بل صاروا يدخلون عبر شاشات صغيرة تنتقل من يد إلى يد، تجلس إلى مائدتنا، تشاركنا غرف نومنا، وتعيد تشكيل توقعاتنا وأحلامنا وعلاقاتنا، إنها عوالم البلوجرز والمشاهير الجدد الذين أصبحوا “مستشارين غير مرخصين” للأسرة العربية..”.

تقول الدكتورة فاطمة الزهراء، أستاذة الاجتماع بجامعة القاهرة: “باتت العديد من الأسر تعيش في دوامة المقارنات المستمرة مع حياة المشاهير المثالية على السوشيال ميديا، فبينما تعاني الأسرة من ضغوط اقتصادية، تطلب الزوجة نفس الحقائب والفنادق الفاخرة التي تراها لدى البلوجرز، ويشعر الزوج بالإحباط لأنه لا يستطيع تلبية هذه التوقعات غير الواقعية”.

ويشير الدكتور أحمد عبد الرحمن، الخبير التربوي، إلى أن “بعض البلوجرز يقدمون نمط حياة مناقضاً تماماً للعادات والتقاليد العربية والإسلامية تحت شعار الحرية والانفتاح، فتجد فتيات في العشرينات من عمرهن يقلدن مذيعات مشهورات في أسلوب الحديث والملبس والعلاقات، مما يسبب صداماً مع الأهل”.

وتقول السيدة “أم محمد-42 عاماً”: “ابنتي البالغة من العمر 16 عاماً أصبحت تردد عبارات مثل “أنا حرّة جسدي ملكي” بعد متابعة إحدى المذيعات على الإنستجرام، وترفض ارتداء الحجاب بحجة أن المذيعة الفلانية قالت إنه تقييد للحريات”.

ويضيف سيد-38 عاماً: “زوجتي أصبحت تتابع عشرات البلوجرز الذين يسافرون بشكل دائم، وتطالبني بالسفر كل شهر إلى وجهات فاخرة، بينما راتبي بالكاد يكفي مصاريف الشهر، هذا الأمر تسبب في خلافات مستمرة بيننا كادت أن تصل إلى الطلاق”.

على جانب آخر كشفت دراسة حديثة أجراها المركز القومي للبحوث الاجتماعية في مصر أن: “67% من حالات الطلاق المسجلة حديثاً يكون أحد أسبابها الخلافات الناتجة عن متابعة السوشيال ميديا، 42% من الأسر العربية تشعر بأن علاقاتها الأسرية تأثرت سلباً بمحتوى المشاهير على الإنترنت، 38% من الشباب العربي يفضلون قضاء وقت أطول في متابعة المشاهير على الإنترنت بدلاً من التواصل مع أسرهم”.

تؤكد الدكتورة هبة قطب، أستاذة الإعلام بجامعة عين شمس: “الإعلام الجديد أصبح سلطة موازية للأسرة والمدرسة، بل ويتفوق عليهما في التأثير، والمشكلة أن هذا المحتوى يقدم بدون رقابة أو توجيه، ويصل مباشرة إلى جميع الفئات العمرية بدون فلتر”.

أما الدكتور محمد محمود، استشاري العلاقات الأسرية فيقول: “الكثير من الأزواج والزوجات أصبحوا يقارنون شريك حياتهم بما يرونه على السوشيال ميديا، فالزوجة ترى الزوج المثالي في البرامج التلفزيونية، والزوج يرى الزوجة المثالية في حياة البلوجرز، وينسون أن ما يشاهدونه هو جزء محرر ومُنتقى بعناية وليس الحياة الحقيقية”.

تقترح الدكتورة منى طلعت، أخصائية العلاج الأسري، مجموعة من الحلول العملية عقد جلسات حوار أسرية أسبوعية لمناقشة المحتوى الذي يتم متابعته، ووضع قواعد واضحة لاستخدام السوشيال ميديا داخل الأسرة، وتنظيم ورش توعوية عن التفكير النقدي وتحليل المحتوى الإعلامي، وكذلك تفعيل دور المؤسسات الدينية في توعية الشباب بمخاطر المحتوى غير الموجه، وتطوير مناهج تعليمية تعزز المناعة الفكرية لدى الطلاب، وإطلاق حملات إعلامية توضح الفرق بين الواقع المعروض على السوشيال ميديا والحياة الحقيقية.

وفي خضم هذه العاصفة الرقمية، يبرز تساؤل محوري حول دور المؤسسات التعليمية والإعلام التقليدية في مواجهة هذا الغزو الفكري، فبينما تنشغل المدارس بمناهج نظرية قد لا تلاحق متغيرات العصر، وتتراجع برامج التوعية الأسرية في الإعلام المرئي، يجد الأبناء والآباء على حد سواء أنفسهم في مواجهة مباشرة مع محتوى جذاب وغير خاضع للرقابة، هنا، تتحول المسؤولية من مجرد توجيه فردي إلى ضرورة تدخل مؤسسي عاجل.

فالمدارس مطالبة بدمج برامج تربية إعلامية تعلم الطلاب كيفية تحليل المحتوى الرقمي نقدياً، وتمييز الواقع من الوهم، وفهم آليات صناعة المحتوى والتأثير الإعلاني خلف حياة المشاهير المثالية, ويجب على وسائل الإعلام الرسمية تطوير خطابها ليكون أكثر جاذبية وواقعية، يتناول هموم المواطن اليومية دون مبالغات، ويقدّم نماذج ناجحة محلياً يمكن الاحتذاء بها، بدلاً من ترك الساحة خالية لأصوات قد تروج لقيم مستوردة لا تتوائم مع نسيجنا المجتمعي.

وتُواجَه المؤسسات الدينية في العالم العربي بتحدٍ وجودي في ظل هذه الظاهرة، حيث يتسع الفجوة بين خطابها التقليدي والواقع المتغير للمجتمع، فبينما يغرق الشباب في محتوى رقمي جذاب يقدم أفكاراً “متحررة” من القيود، تظل كثير من خطابات الوعظ والإرشاد تدور في فلك الترهيب والتخويف دون تقديم بديل جذاب.

ويقول الشيخ الدكتور خالد الجندي: “لم يعد كافياً أن نقول للشباب ‘هذا حرام’ دون أن نشرح الحكمة، ونقدم البديل الجميل، ونتحدث بلغة العصر. إذا لم ننزل إلى ساحة المعركة الفكرية بأسلحة العصر، فقدنا الجيل الجديد”. 

المؤسسة الدينية الرسمية مدعوة اليوم إلى خوض غمار المنصات الرقمية بخطاب وسطى، يعترف بتحديات العصر، ويقدم إجابات واضحة دون تهويل أو تهوين، ويبني جسوراً مع الشباب قبل أن تهدم المنصات الأخرى قناعاتهم.

وفى النهاية ليست العودة إلى الماضي هي الحل، ولا الانغلاق على الذات، بل تنمية الوعي النقدي والقدرة على التمييز بين الواقع والوهم، فكما نحمي أبناءنا من المخاطر في الشوارع، علينا أن نحميهم من المخاطر في العالم الافتراضي، وأن نكون قدوة إيجابية في استخدامنا للتكنولوجيا.

error: Content is protected !!