أخبارالأرشيفمقالات

دماغيات: مستعدة للرحيل ..!!

الاستماع للخبر

8

توضأت..وأخذت سجادة الصلاة لأؤدى فريضتى، وقررت أن أصلى فى غرفتها، دخلت إليها فوجدتها راقدة على سريرها بشكل عكسى، أى أن ظهرها فى مقابل باب الغرفة، ردت على السلام بصوت غريب على أذنى بعض الشئ، سألتها: “مالك يا أمى”؟ ..فأجابت: “مفيش حاجة ياحبيبى”.

حاولت النظر إلى وجهها إلا أن “طرحتها” حالت دون ذلك، خاصة أنها كانت تغطى وجهها بالكامل، أزحتها وكدت أسقط من هول المفاجأة، أمى أصيبت بجلطة أثرت على تعابير وجهها، والمصيبة أنها مستكينة ومستسلمة وقانعة..بل وتحاول جاهدة أن تخفى عنى ماحدث، وعندما صرخت وهممت بالاتصال طلباً للمساعدة الطبية أو الاسعاف قالت لى بفيض من الرضا بالقضاء والقدر: “خلاص ياأبنى ..خلصت..الحمد لله”.

وأذكر لها أيضاً معاناتها ذات يوم من حساسية شديدة فى الصدر، أدت إلى نوبات سعال متكرر، وضيق شديد فى التنفس، وعندما رأيتها على هذا الحال سارعت لإستدعاء طبيب، الذى نصحنى بجلسات بخار للإستنشاق، وعندما رأت جهاز “النابولايزر” لأول مرة، وقناع الوجه الخاص به قالت لى أيضاً: “ليه ياأبنى التعب..هى خلاص خلصت..الحمد لله”.

هكذا كانت أمى رحمة الله عليها؛ دائماً راضية وقانعة بأمر الله، هادئة حتى فى أصعب المواقف والظروف، مستعدة دائماً للرحيل، بل وفى إنتظاره، فى عينيها عمق وآثار سنين من الإرهاق والمعاناة والتفكير ليل نهار ممزوج باليقين من نصر وتوفيق الله، لم أرها فى حالة عصبية إلا مرات نادرة لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، رغم الأهوال والصعاب والعقبات التى واجهتها، هذه الفتاة الصعيدية التى لم تنل حظاً كبيراً من التعليم، والتى أصبحت مسئولة عن بيت وزوج وأولاد قبل أن تصل إلى العقد الثانى من عمرها.

أمى حملت أعباء تربية وتعليم نصف دستة من الاطفال أكبرهم لم تتخط عامها الحادى عشر، وأصغرهم رضيع، فى ظروف أقل ماتوصف به أنها عصيبة، ولم يمد لها أحد يد المساعدة، جدفت ضد الشلال لا ضد التيار، وأصرت على تنفيذ وصية زوج كان لها كل شئ؛ الرجل والأخ والصديق والظهر والسند، فارق الدنيا قبل أن يشتد عودها، وتركها تصارع أعتى صنوف الأمواج، وأنجاها الله وأولادها بفضله، ونجحت فى العبور بأولادها إلى الشهادات التعليمية العليا، فى الوقت الذى فشل فيه الكثيرين كانوا يعيشون فى رغد وسعة.

قبل إنتقالها للرفيق الأعلى -صبيحة الخامس عشر من فبراير فى العام 2012- بيومين سألها أخى الأكبر: “عاملة إيه ياأمى”؟، وكانت وقتها تصارع آلام المرض، فأجابت بكلمتين: “الحمد لله” .. لم تتنطق غيرهم حتى أسلمت الروح إلى بارئها..فكان الحمد لله آخر كلامها فى الدنيا.

رحمة الله عليكى ياأمى..لم أطيعها فى أمر إلا رايت فيه الخير كله؛ عاجله وآجله، ولم أخالفها فى شئ إلا أرانى الله فيه العجب العجاب، كانت حكمتها محل إستغراب وتعجب الكثيرين، وكانت آرائها دائماً صائبة بشكل غريب، وظلت فى كل أوقاتها راضية ومحبة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم وآل بيته، ومستعدة للرحيل للقاء ربها، ففى ذكراكى أدعو الله إليكى بالرحمة والمغفرة يا أمى، وأن يسكنك الله فسيح جناته بفضله ومنته، وأن يلحقنا سبحانه بك على خير، وسائر أمواتنا جميعاً..”يا أيتها النفس المطمئنة إرجعى إلى ربك راضية مرضية فأدخلى فى عبادى وأدخلى جنتى” ..صدق الله العظيم.