أخبارالأرشيفمجتمعمقالات

دماغيات “أبو المجد”: “سنوات اللاتربية”..!!

الاستماع للخبر

يمتلك صديقى “صبحى” صاحب سنوات العمر التى تقترب من الـ 60، كاريزما رائعة فى سرد القصص، روي لنا يوماً أن والدته -رحمة الله عليها وعلى والدينا- عاقبته بـ “العطش” لعدة ساعات، كان ذلك وعمره لايتجاوز السنوات الثمانية، لأنه تجرأ وقام بالتحرك تجاه “مطبخ” إحدى الجارات عندما كان بصحبة والدته فى زيارة لها، وبرر ذلك بعطشه ورغبته فى ملء كوب من الماء ليشربه.

وعلى الرغم من القصص الكثيرة التى سردها “صبحى” عن والدته، والتى تظهر كماً رهيباً من الحنان والحب لأولادها، إلا أنها نهرته وعاقبته بما سبق ذكره لأنه من المفترض ألا يتحرك من مكانه عند وجوده فى منزل غير منزله، أو فى أى مكان غير بيته إلا بعد الاستئذان من صاحب المنزل أوصاحبته، أو أن يطلب منهم مايريد.

يستكمل “صبحى”: هذا الدرس لازمنى طيلة حياتى، وذلك مايجعلنى أستأذن فى كل شيئ، الماء والحمام والطعام وغيرهم، وقمت بتربية أبنائى على ذلك.

فى بلدتنا الصغيرة القابعة فى أحضان “سوهاج”، وغيرها من القرى، كان هنا “روح الأقاليم”، كانت الأفراح تؤجل لأكثر من 40 ليلة عند حدوث وفاة فى أى من منازل القرية، وربما فى القرى المجاورة، وأحياناً يمتد التأجيل لعام كامل، ويصاحب ذلك إقتصاد مظاهر الأفراح أو ربما إلغاؤها بالكامل..كان ذلك منذ سنين، وتغيرت هذه القواعد حالياً لتجارى العصر الحديث، فأصبحت الأفراح والأحزان تجرى فى نفس الوقت وفى البيوت المتجاورة.

وفى بلدتنا ذاتها كان الشباب يترجلون عن راحلتهم إذا مروا بشيوخ جالسين أو مارين، وكانت النساء يمرون لا يرى منهن شيئ، ولا يسمع فحيحاً لهن، يعبرن من جانب الطريق الخالى خصيصاً إحتراماً وتقديراً لهن، فهن سيدات البيوت وزينتها، وأقمارها الساطعة فى الظلمات، هن مصانع الرجال وشركاء الحياة المبجلات، لهن كل الاحترام وغاية الإجلال، وعل الرغم أن أصواتهن لا تظهر إلا أنه لا يجرؤ أحد من أبنائهن أو بناتهن على أن يرفع صوته فوق صوتهن.

ما أقصده فى مقالتى هذه أننا فى أمس الحاجة إلى هذه القواعد الراسخة فى التعامل، بحاجة إلى آداب إفتقدناها فى أجيالنا الحديثة، يراها أبناء الجيل الحالى “تقليدية وقديمة”، وأرى وغيرى عدم وجودها سبباً فى الكثير من الذلات والمشكلات فى عصرنا الحالى.

كان هناك “حياء”، وكانت هناك أشياء تسمى “عيباً”، وأخرى يطلق عليها إصطلاح “مايصحش” أو “مينفعش”، وكانت هناك “محرمات”، الكبار كانوا آلهة بالنسبة لنا، كلامهم حكم، سواء كانوا آباءً أو أمهات، وأوامرهم قرءاناً، لا يجوز مناقشتها أو الاعتراض عليها، بعيداً عن القواعد الدينية التى لاخلاف عليها.

أشعر اليوم أن هناك خللاً حدث فى “سنوات التربية”، كان الأطفال شباباً، والشباب رجالاً، والرجال حكماء، وكانت الصبية شابات، والشابات نساءً، والنساء حكيمات، واليوم إختلط الحابل بالنابل، والهاجع بالناجع، الحوار مع الأطفال أصبح أكثر صعوبة من الحوار مع الكبار، وإحترام الصغير للكبير ولى إلى غير رجعة، لم يعد هناك حياء ولا كسوف ولا خشية، “البرود” و”النطاعة” و”سوء الخلق” أصبحوا سادة الموقف، التبارى والتنافس أصبح فى كمية “قلة الأدب”.

ونتيجة لهذا الخلل وصلنا إلى هذه الحالة من “اللاتربية”، الأسر أصبحت بلا قواعد، وأنتشرت كافة العادات السيئة التى نعانى منها ويعانى منها مجتمعنا، والسبب هو الخلل الذى حدث لشريحة كبيرة من الآباء والأمهات فى حقبة من الزمن، فنتج عنه جيلاً الله وحده يعلم بحاله.

عودة إلى قواعد الماضى وأسسه “التقليدية” وإحترامه قد تكون حلاً للكثير من مشكلات عصرنا الحالى، أو ربما العصر المقبل، نربى عليها النشئ الحالى ليصبح جيل شباب المستقبل كما نأمل.

قال رسول الله : “ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا“، وقال أيضاً: “ما من شيء أثقل في ميزان العبد المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق وإنّ الله ليبغض الفاحش البذيء”.صدق رسول الله ﷺ.