مازال الحديث عن الذكاء الاصطناعي يحتل موقعاً كبيراً من التقارير الإخبارية والحوارات العلمية والتلفزيونية منذ الظهور الكبير لتطبيق “شات جي بي تي”.
وأغلب البظن أن الحديث حول هذا الموضوع سيطول مع زيادة التنافس بين الشركات المقدمة لخدمات الذكاء الإصطناعي وانتشار تطبيقاته بشكل واسع من جهة؛ ومع تصاعد الجدل الأخلاقي بخصوصه من جهة أخرى؛ سواء كان هذا الجدل بسبب مدى تأثيره على مستقبل الجنس البشري أو بخصوص حدود استخداماته في المجالات العسكرية والاقتصادية.
اليوم سأتطرق لنقطة أراها محورية في هذ الجدل، وهو لماذا يخاف الناس من الذكاء الاصطناعي الآن، وكيف تحولت اللحظة التي اقترب فيها الإنسان من صناعة عقل يقترب من محاكاة عقله، من لحظة احتفاء بعظمة الإنتاج البشري إلى لحظة خوف ورعب وتوجس من المستقبل في وجوده.
أرى أن لحظة الخوف الكبرى التى تمر الآن تنبع في أساسها من فقدان الإنسان المعاصر لثقته في ذاته، وفي قدرته على مواجهة هذ الكم الكبير من التحديات المتتالية بشكل عنيف في الفترة الأخيرة.
الإنسان المعاصر تم تطويعه على السؤال والشك في كل الثوابت القديمة، وتجريده من كل الروابط، مع وعد حثيث – كان يبدو متحققا بشكل كبير في حينها – بأن السؤال المستمر والتحلل المستمر من الماضي والتراث والعلاقات هو الباب للإنطلاق نحو الرفاهة وتحقيق معدلات نمو أكبر على المستوى الفردي والجماعي.
وفي إطار تلك الوعود تحرك الإنسان شرقاً وغرباً، وبات بقائه في قريته أو دولته كما هو عبارة عن استثناء، وأصبح تحدثه بلغة عالمية مشتركة وتداخله في عمليات تصنيعية -قد لا تنتمي لثقافته أو بيئته- هي عمليات طبيعية ومرحب بها على نطاق واسع.
صاحب هذا الوعد تقدم تكنولوجي هائل أصبح بموجبه الإنسان المعاصر ممكّنا كما لم يكن ممكّنا من قبل، وأصبحت أخبار الدنيا كلها متاحة لديه في التو واللحظة، بل وبشكل ما أصبح مقدار التقدم التكنولوجي أسرع من استيعاب الأفراد ذاتهم وأسرع من قدرتهم على التأقلم على كل طفرة جديدة.
ففي عالم البرمجة مثلا تعددت لغات البرمجة وتطبيقاتها وتغيرت بسرعة هائلة وأصبحت سنين الخبرة لمهندس برمجة كبير في لغة برمجة معينة غير شفيعة له للترقي إذا ظهرت لغة جديدة وتمكن من أداءها شباب أصغر في السن والخبرة، قس على ذلك في كافة المجالات الأخرى المتعلقة بالتطور التكنولوجي الهائل الحادث.
على جانب أخر امتلك عالم الأعمال مرونة هائلة في تنويع مصادر الدخل بسبب التقدم الهائل في عالم الاتصالات والمواصلات، وبالتالي أصبحت القدرة على الامتلاك والاستغناء أسهل كثيراً في مقابل الحفاظ على هامش ربح كبير.
وعلى سبيل المثال فالموظف في أميركا اليوم يمكن استبداله بموظف أخر من أقصى الطرف الأخر من العالم بدون تأثير يذكر على كفاءة دورة العمل اليومية، وكذلك يمكن تخفيض أو رفع عدد الموظفين بسهولة مع التغيرات المستمرة على الأداء الاقتصادي (الدولي والمحلي على حد السواء لارتباطهم ببعض بشكل غير مسبوق).
وفى لحظة وجد الإنسان المعاصر نفسه في مواجهة حقيقة هامة ومؤلمة؛ ألا وهي أنه يمكن أن يتوقف به الطريق والزمن فجأة بدون أن يكون مستوراً ببلده الأم أو ثقافته..أو تراثه.
وفي نفس الوقت تكالبت في السنوات الأخيرة العديد من الكوارث الاقتصادية والإنسانية بشكل مكثف وبتأثير مباشر أكثر من أي وقت سابق، فمع بداية الألفية حدث هجوم برجي التجارة العالمية في الولايات المتحدة، تلاها حربين دوليين كبيرين، وانهيار مصرفي في العام 2008 مروراً بجائحة عالمية تبعتها حرب أوروبية مع ضغط اقتصادي عالمي كبير.
كل هذا وضع الإنسان المعاصر تحت ضغوط هائلة صاحبتها تغيرات في ترتيبات أولويات المجتمع في الكسب حيث وجد الإنسان نفسه محاصراً مع نمط جديد للكسب يعتمد على الظهور الجسدي والحسي المبالغ فيه من خلال منصات التواصل الاجتماعي.
الآن يمكن تحصيل الكثير من الأموال عن طريق حركات بهلوانية أمام الكاميرا، أو عن طريق شفاه بارزة، أو عن طريق المكوث لساعات أمام البث المباشر بالكلام أو الانفعال أو الرقص أو البكاء أو الضحك.
فقد الإنسان المعاصر مع الوقت نقطة ارتكازه، وتاهت أمامه المعايير التي بها يستطيع أن يكون رؤية واضحة لإمكانياته وقدراته، وبالتالي يستطيع اكتساب ثقته بنفسه وثقته باختياراته وعواقبها على المستوى الفردي والمستوى الاجتماعي العام.
وفي نفس تلك اللحظة وجد تبشيراً جارفاً بحلول الذكاء الإصطناعي في الفضاء العام ليفكر وينتج ويوفر ويمارس الكثير من الصفات التي كانت حكراً على العنصر البشري وحده، ولكن أدرك الإنسان المعاصر أن صانعي هذا النوع من الذكاء هم من قادوه لتلك الحيرة الكبيرة تجاه نفسه وتجاه جدوى تصرفاته، بل واتجاه بقاؤه نفسه.
يدرك الإنسان أن المعلومات التي تم تغذية خوارزميات الذكاء الإصطناعي بها هي المعلومات التي صاغت ملامح الواقع الذي يعيشه, بل وستكون تلك الآلة أكثر دقة وسرعة وعنفاً في صياغة الواقع الصعب الذي يعيشه، ذلك العالم المليء باللا يقين فى اتجاه كل شيء، والذي تنحسر موجات وعوده في حالة جْزر ممتدة لا يعلم لها نهاية.
نجد نفسنا الآن أمام مشهد ملحمي أسطوري..ولكنه عبثي للغاية، ففي حين اقترب الإنسان من الوصول لذروة إبداعه بمحاكاة العقل البشري وتصرفاته ودوافع أفعاله, نجد أن هذا الإنسان يصيبه الخوف العميق من نتاج هذا الفعل العظيم وعواقبه ويبدو وكأنه قد فقد ذاكرته ونسي أنه هو من صنع تلك الآلة وشيد أعمدتها وجدرانها.
هذا المشهد الغريب لم يكن متوقعا حقاً مع ذروة إحساس الإنسان بقوته في بدايات الثورة الصناعية في أواخر القرن التاسع عشر، أو حتى مع التبشير بنهاية التاريخ في أواخر القرن العشرين.
أجد أن هذا الخوف منطقي ومشروع تماما -بل وسيستمر على الرغم من إرادة الجميع- ولكني مع هذا الإحساس العارم بالخوف يراودنى تفاؤل كبير بهذا التراكم البشري الكبير.
فاليوم؛ وكل يوم تصبح التكنولوجيا مجانية في يد عدد أكبر من البشر بشكل لم يكن متاحا بهذا الاتساع من قبل، فبغرفة بسيطة وجهاز حاسوب شخصي وكاميرا هاتف محمول يستطيع المليارات من البشر تطوير العديد من الأدوات والرسائل والمعارف التي تعبر عنهم بشكل أوضح، وتصل مباشرة إلى عدد غير محدود من الناس شريطة أن يعوا حقيقة قوتهم الإنسانية وقدرتهم على تسخير الوجود ومن فيه.
ولعلي أضع تلك الآية القرآنية الكريمة نصب عيني عندما تأخذني الأفكار بعيدا: “وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا”..صدق الله العظيم.