أخبارالأرشيفمقالاتمنوعات

سياسة “الثالثة شمال” ..!!

فى استاد القاهرة الدولى؛ الثالثة شمال ليست مجرد درجة بالمدرجات، إنها “حدوتة كبيرة” إكتسبت شهرتها من روادها الحريصين على مشاهدة المباريات من على مقاعدها.

فى مباراة النادي الأهلي مع نظيره الجزائري “الرجاء البيضاوي” منتصف الشهر الماضي كان حظى وابنائى ان نكون بين مقاعد الدرجة الأولى، وبمجرد الجلوس أصبنا بالهلع من صوت الجماهير الهادرة القادم من على يسارنا..إنهم يصرخون: “الثالثة شمال.. بتهد جبال”.

الغريب أن هذه الجموع الكثيفة وهذا التشجيع الذى يصم الآذان لفت إنتباه إبنتى ذوات الـ ١٧ و ١٥ ربيعاً..وبالطبع حاز إستحسان إبنى الصغير ذو السنوات الثمانية، وصار يردد معهم بحماس شديد: “فريق عظيم ..أديلو عمرى وبرضو قليل”.

وسط ذلك كله فشلت كافة محاولات “صراع الأجيال” بينى وبينهم لإقناعهم بان “الدرجة الأولى هادية، وتتفرج بإحترام وتركيز، وهناك زحمة ودوشة”، بل إن الأغرب من ذلك ان ما أعتبرته عيباً كان العنصر الأكثر تميزا لديهم..!!

المهم؛ كان حظى في مباراة النادى الاهلى الأولى مع “الوداد المغربي” ان أكون بين مقاعد الدرجة الثالثة شمال، بصراحة في البداية كنت سألغى المشاهدة فى الاستاد وأكتفى بالـ “أنتخة” أمام التلفزيون فى البيت مرتديا الشورت والفانلة “الحملات” تحت المروحة ومع قليل أو كثير من الـ “سناكس” والشاى وخلافه، إلا أن دمعات الصغير “محمد” و”لوية البوز” جعلتنى أرضخ له وأقبل بالذهاب إلى الاستاد.. وثالثة شمال ثالثة شمال.

وصلنا الاستاد قبل المباراة بربع ساعة فقط، طبعا لم نجد “خرم إبرة” فاضى لنجلس فيه، قلت مش مشكلة..جلسنا على السلم، “اللى طالع واللى نازل يخبط فينا”، بعد حوالى ربع ساعة صعبنا على أحد الجمهور فأزاح “شنطة وزجاجة مياه”..وسمح لنا بالجلوس مكانها أنا وإبنى.. كتر خيره بصراحة.

ماحدث بعد ذلك جعلنى مذهولا طوال المباراة؛ اولا: مشاهدة المباراة من هذا المكان بالفعل له مذاق خاص، الرؤية جيدة، والاندماج مع اللاعبين على أقصى الدرجات.

ثانياً: هذا الجمهور ليس متشردا او صعلوكا كما كنت أظن ويظن الغالبية، هذا الجمهور واع إلى أبعد الحدود..على عكس المتوقع تماماً حدثنى رفيقى الجالس بجوارى بكل ثقافة عن المشاعر التى يكنها الجمهور المغربي تجاه الأندية المصرية، وعن الدور الكبير الذي لعبه وأصحابه فى استقبال الفريق المغربى بكل ود وحفاوة حتى يذيبون قدر الإمكان الضغينة والبغضاء من قلوبهم تجاه مصر والنادى الأهلى.. سبحان الله؛ الفتى ذو الاربعة عشر ربيعا “بيفهم فى السياسة” بل ويطبق حلولها.

أخبرنى الفتى أن الجالسون هناك، فى مدرجات الدرجة الثانية هم مشجعى الغريم التقليدي “الزمالك”، حضروا لمؤاذرة الفريق المصري في رحلته نحو إعتلاء عرش الرياضة الأفريقية من منطلق “أنا واخويا على ابن عمى”.

ثالثاً: هناك إشارات معينة مشتركة بين كافة جماهير الأهلى، الدقيقة “معرفش كام” يتم التلويح بـ “كشاف الموبايل”، والدقيقة كذا يطبق الصمت على الملعب كله، وذلك بالطبع بعيدا عن الهتافات المحفوظة والمتعارف عليها.

رابعاً: الجمهور على دراية تامة ببنود التحكيم، فمثلاً عند لمس الكرة المتعمد باليد يتم “طرد اللاعب” وليس إنذاره، وفى حالة سقوط اللعب وتظاهره بالإصابة دون حق ومن ثم قيامه دون مساعدة يصبح من حقه “كارت أصفر”..وهكذا، ومن هذا الوعى يتم تقييم حكم المباراة ومساعديه من الجودة او السوء.

خامساً: ما أدهشنى حقا انه على الرغم من أن مظاهر جمهور “الثالثة شمال” تدل على بساطة وشعبية هؤلاء الفتية والشباب وتواضع مستوياتهم الثقافية، إلا أن ذلك ثبت خطأ التقدير من جانبى، حيث فوجئت بشياب محترم خلوق يتصرف بمنتهى الأخلاق ويرفض السباب او الألفاظ النابية، حتى أن أحد الأشخاص قام بإطلاق عدد من الشتائم فما كان من البعض إلا أن جذبه للخارج بشدة وبمنتهى السرعة..ولم يعد ثانية بين الصفوف، إحتراما لمن كانوا بين الصفوف من النساء والأطفال.

وأخيرا..هالنى منظر الآلاف من الشباب البسطاء والذين لم يستطيعوا الحصول على “تذكرة” لدخول المباراة نظرا لإرتفاع سعرها بالنسبة لهم، ظلوا يشجعون خارج الملعب حتى قبيل صافرة النهاية لعل قلوب المسئولين عن الاستاد ترق لحالهم ويتم السماح لهم بمشاهدة البقية الباقية من المباراة.

بكل صراحة.. دروس كبيرة تحصلت عليها من متابعتى للمباراة بين صفوف مشجعى الأهلى من مدرجات الدرجة الثالثة شمال.. صباح الفل.

error: Alert: Content is protected !!