3.6 تريليون جنيه تنتقل عبر المحمول سنوياً: “المحافظ الإلكترونية” في مصر بين “هيمنة اللاعب الواحد” و”ثقة المستهلك”
لم يعد الحديث عن “المحافظ الإلكترونية” في مصر رفاهية، بل أصبح واقعًا يوميًا لملايين المستخدمين، ومؤخراً أكدت الأرقام التي كشف عنها “تقرير الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات” للربع الثاني من 2025 أن مصر تعيش طفرة غير مسبوقة في مجال الدفع عبر الهاتف المحمول، حيث ارتفع عدد المحافظ والمعاملات والقيمة المالية بوتيرة تعكس تسارع التحول الرقمي، وتكشف في الوقت نفسه عن تحديات جديدة أمام المنظمين والشركات والمجتمع.
وأشار تقرير الجهاز القزمي لتنظيم الاتصالات أن هناك 46.3 مليون محفظة إلكترونية نشطة على مستوى الجمهورية، جرى عن طريقها 718 مليون معاملة مالية خلال ثلاثة أشهر فقط، بقيمة إجمالية بلغت 943 مليار جنيه، وبالمقارنة بالعام الماضي، تكشف الأرقام عن زيادة 29% في عدد المحافظ، ونمو 80% في حجم العمليات، وارتفاع 72% في القيمة الإجمالية للمعاملات..ويؤكد الخبراء الاقتصاديون أن ما تحقق في عام واحد يعادل ما حققته بعض الأسواق الناشئة في خمس سنوات، وأن المحافظ الإلكترونية باتت العمود الفقري الجديد لحركة الأموال بين الأفراد والشركات الصغيرة.
وكشف تقرير “تنظيم الاتصالات” عن مشهد تنافسي غير متوازن؛ حيث حصلدت محفظة “فودافون كاش” 55% من الحصة السوقية، و78% من العمليات، محققة 81% من القيمة الاجمالية، بينما جاءت محفظة “إي آند كاش” 21% من الحصة السوقية، بقيمة11% من العمليات، و10% من القيمة، وجاءت “أورنج كاش” فى المركز الثالث بحصة سوقية بلغت 19%، و10% من العمليات، و8% من القيمة.. بينما حصلت المحفظة الالكترونية “وي باي” على 5% من الحصة السوقية فقط، و1% فقط من العمليات والقيمة.
ويؤكد الخبراء أن تفوق فودافون ليس وليد الصدفة، بل نتيجة استثمار مبكر في البنية التحتية، وبناء شبكة وكلاء ضخمة، لكن المنافسة لم تنتهِ بعد، فالسوق ما زال في مرحلة نمو تسمح ببروز لاعبين أقوى خلال السنوات المقبلة.
وبحسب التقرير، جاء “التحويل من محفظة لأخرى” على رأس الخدمات بنسبة 54% من عدد العمليات و71% من القيمة، يليه شحن الرصيد “20%”، ثم الإيداع “19%”، بينما لم تتجاوز المدفوعات الأخرى “تبرعات، فواتير، تسوق” 2%..ويشير الخبراء: “الثقافة المالية للمستخدم المصري لا تزال تركز على تحويل الأموال بين الأفراد، أما سداد الفواتير والشراء عبر المحافظ فما زال بحاجة إلى حوافز وتشجيع حكومي وتجاري لزيادة الاعتماد عليه.”
ومن أبرز التطورات التي سلط عليها التقرير الضوء، إتاحة استقبال التحويلات البنكية الواردة من الخارج عبر المحافظ الإلكترونية بالجنيه المصري..ويؤكد الخبراء أن هذه الخدمة ستحدث فارقًا كبيرًا، لأنها تسهل وصول الأموال إلى الأسر، وتدعم القنوات الرسمية، وتقلل الاعتماد على السوق الموازي للتحويلات. كما ستزيد من ثقة المصريين بالخارج في المنظومة الرقمية.
ومع زيادة الاعتماد على المحافظ الإلكترونية، برزت مخاوف متصاعدة من “الاحتيال الإلكتروني”، فأصدر الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات تعليمات جديدة تُلزم الشركات بتطبيق ضوابط أمان إضافية، مثل تفعيل التحقق الثنائي، وتعزيز نظم المراقبة، ويشير الخبراء أن المحتالون يتطورون بالسرعة نفسها التي يتطور بها السوق، ولا يكفي فرض ضوابط تقنية فقط، بل يجب أن يصاحبها حملات توعية للمستخدمين، لأن العنصر البشري غالبًا ما يكون الحلقة الأضعف.
ورغم الأرقام المبشرة، ما زالت قطاعات من المجتمع، خاصة في القرى والمناطق الريفية، مترددة في الاعتماد على المحافظ الإلكترونية، وفى هذا الصدد يقول الباحثون الإجتماعيون أن الثقة هي كلمة السر، فكثير من المواطنين يخشون فقدان أموالهم أو التعرض للنصب، لذلك يحتاج الأمر إلى بناء وعي تدريجي، وتجارب ناجحة يلمسها المواطن بنفسه.”
ويرى المحللون أن توسع المحافظ الإلكترونية سيفتح الباب أمام تعزيز الاقتصاد غير الرسمي وإدماجه في المنظومة الرسمية، وزيادة حصيلة الضرائب عبر المدفوعات الرقمية، وخلق فرص لشركات ناشئة تقدم خدمات مبتكرة مرتبطة بالمحافظ..لكنهم يحذرون من أن استمرار “هيمنة لاعب واحد” قد يضر بالمنافسة، وأن غياب الابتكار في الخدمات قد يبطئ من معدل النمو في المستقبل..ويبرز السؤال الأكبر: هل يمكن أن تصبح مصر مجتمعًا بلا نقد في المستقبل القريب؟.
الإجابة، بحسب الخبراء، “ليست بعد”، فمصر على الطريق الصحيح، لكن الوصول إلى مجتمع لا نقدي يتطلب تكاملًا بين شركات الاتصالات، البنوك، والحكومة، بجانب توفير البنية التحتية الرقمية، وتعزيز الثقافة المالية للمواطنين.”
تقرير الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات لم يكن مجرد عرض للأرقام، بل مرآة تعكس التحولات العميقة في المجتمع المصري..فبينما تتسارع خطوات التحول الرقمي، يبقى التحدي الحقيقي في تحويل هذه الطفرة الرقمية إلى خدمات آمنة، شاملة، ومستدامة تخدم المواطن البسيط قبل المستثمر الكبير.
