أخبارالأرشيفمقالات
أخر الأخبار

خالد أبو المجد يكتب: الجريمة..المسكوت عنها..!!

منذ عامين، أقر مجلس النواب المصري قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات وسط ضجة إعلامية لافتة، وتصدرت مواد مثل تجريم سرقة الواي فاي العناوين الرئيسية في الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي.

وتصادف الأهمية العملية لهذا التجريم في أوقات الذروة المجتمعية، انطلاق الدورة الحالية لبطولة الأمم الأفريقية، والتي تُبث عبر قنوات مشفرة، مما يدفع الكثيرين للبحث عن أي وسيلة لمتابعة منتخبهم، حتى لو كانت عبر “ممر سري” إلى شبكة جارهم..وهكذا تتحول سرقة الواي فاي من فعل عابر إلى “خطة ضرورية” تحت شعار “الغاية تبرر الوسيلة”، في مفارقة تجمع بين أقصى درجات الحماس الرياضي وأبسط أشكال انتهاك الملكية الرقمية.

جاء نص القانون حاسماً وقاسياً: “الوصول غير المشروع إلى شبكة معلوماتية يعاقب عليه بالحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر، وبغرامة لا تقل عن عشرة آلاف جنيه ولا تجاوز خمسين ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين”.

كانت الرسالة واضحة: الفضاء الرقمي لم يعد منطقة رمادية بلا سياج، وحدود الملكية امتدت لتصبح البيانات وحركة المرور الإلكترونية أموالاً مصونة بحكم القانون.

لكن المفارقة العجيبة تبدأ هنا، فبعد مرور عامين بالتمام والكمال، لم نسمع تقريباً عن قضايا محاكمات أو توقيفات متعلقة بسرقة الواي فاي الجار..لقد تحول القانون إلى شيء يشبه “التحذير المكتوب على علبة السجائر” – مجرد نص نراه لكن نادراً ما نأخذه على محمل الجد.

ففي الأحياء الشعبية والراقية على حد سواء، مازال تبادل كلمات سر الواي فاي بين الجيران والأقارب طقساً اجتماعياً عادياً، بل ومازالت مجموعات “الواتساب” و”التليجرام” تتبارى في مشاركة برامج “كسر” تشفير الشبكات وكأن القانون لم يُخلق. لقد أصبح لدينا قانون “على الورق” يعيش في عالم موازٍ لعادات راسخة “على الأرض”، مما يخلق حالة من الازدواجية الثقافية المثيرة للتأمل.

وهنا يأتي دور الإطار الديني والأخلاقي ليعقد الصورة أكثر، فالسرقة محرمة في كافة الأديان السماوية، وفي الإسلام محرمة تحريماً قاطعاً، يقول الله تعالى في محكم التنزيل: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ”. ويؤكد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم على حرمة مال المسلم كما حرمة دمه..ولا شك أن خدمة الإنترنت المدفوعة مالٌ محرم.

لكن الملاحظ أن الوعي الديني المجتمعي، رغم قوته في منع سرقة المال المادي أو السلع من المحلات، يبدو مرناً إلى حد الغرابة أمام “السرقة الرقمية”، فكثيرون ممن يسرقون إشارة الجار لا يتورعون عن إعطاء زكاة أموالهم أو الصدقة على الفقراء بشكل يمثل ازدواجية أخلاقية تظهر كيف أن التقدم التكنولوجي سبق قدرتنا على تطوير أخلاقيات رقمية متسقة مع قيمنا الأصلية.

وقد ساهم عدم تفعيل القانون عملياً خلال السنتين الماضيتين في ترسيخ هذا السلوك، وغياب العقاب الواقعي في خلق شعوراً عاماً بالإفلات من المحاسبة،  فتحولت سرقة الواي فاي من “جريمة” يحذر منها القانون إلى “مهارة” يتفاخر بها المراهقون، وإلى “وسيلة توفير” يعتمد عليها البعض في زمن الغلاء. بل وظهرت ثقافة فرعية كاملة حول الموضوع، من نكت عن “الواي فاي الحر” إلى مناقشات عن أفضل الأجهزة لتقوية الإشارة المسروقة.

لقد أصبح عدم تفعيل القانون رسالة غير مباشرة بأن هذه الأفعال “مقبولة اجتماعياً” أو على الأقل “غير خطيرة بما يكفي” لتحريك الجهات الرسمية..ولعل السؤال الأهم هنا: لماذا لم يُفعّل هذا القانون رغم صرامته النصية؟ هناك عدة تفسيرات محتملة:

أولاً،قد تكون الأولويات الأمنية للدولة موجهة نحو جرائم تقنية أخرى أشد خطورة، مثل الاختراق الموجه للمؤسسات أو الاحتيال المالي الكبير أو نشر المحتوى المتطرف. ففي خضم معارك أمنية كبرى في الفضاء الإلكتروني، قد تبدو قضية “واي فاي الجار” هامشية.

ثانياً،هناك تحدٍ تقني كبير في إثبات هذه الجرائم، فإثبات أن جهازاً معيناً قام بالاتصال غير المصرح به، وتحديد هوية الشخص المسؤول عن ذلك الجهاز في لحظة الاتصال، عملية معقدة وتحتاج بنية تحتية تقنية وأدلة رقمية يصعب على المواطن العادي توفيرها، وقد لا ترى السلطات جدوى في ملاحقة مثل هذه القضايا الصغيرة وسط كم هائل من القضايا الجنائية.

ثالثاً،هناك حساسية مجتمعية. ففي مجتمع تكافلي مثل المصري، حيث العلاقات مع الجيران والأقارب معقدة ومتداخلة، قد يؤدي ملاحقة مثل هذه القضايا إلى تفجير نزاعات محلية وخلق مشاكل اجتماعية أكثر مما تحل.

إذن، نحن أمام مشهد ثلاثي الأبعاد: قانون صارم معلق في الفراغ، ونهي ديني ثابت لكن تطبيقه انتقائي، وعادات مجتمعية متجذرة تستفيد من فراغ التطبيق. فما الحل؟

ربما تكون البداية بالإقرار بأن تغيير السلوك المجتمعي يحتاج لاستراتيجية أذكى من مجرد تهديد بعقوبة سجن.فبدلاً من انتظار تفعيل القانون المفاجئ والصادم، يمكن العمل على جبهات متوازية:

١- جبهة التوعية الأخلاقية والدينية التي تربط بشكل واضح بين سرقة الخدمة الرقمية والأحكام الشرعية،مستغلة خطب الجمعة والدروس الدينية والحملات الإعلامية.

٢- وجبهة الحلول التقنية،بتشجيع شركات تقديم خدمة الإنترنت على تيسير إنشاء “شبكات ضيوف” منفصلة وآمنة، وتوعية المستهلكين بكيفية تأمين شبكاتهم.

٣- وجبهة التدرج في التطبيق القانوني،بالبدء بتطبيق الغرامات المالية البسيطة على المخالفين في الأماكن العامة أو الشكاوى الواضحة، لخلق سابقة تطبيقية دون اللجوء مباشرة لعقوبة الحبس التي قد تبدو قاسية على فعل ترسخ في الوعي الجمعي على أنه “بسيط”.

في النهاية، قد تكون هاتان السنتان من عدم التطبيق فرصة ذهبية غير مخطط لها. فرصة للمجتمع ليهضم فكرة أن الخدمة الرقمية مالٌ له حرمته، وللجهات المعنية لترسم خطة تطبيق واقعية لا تؤدي إلى فوضى اجتماعية، وللعلماء والدعاة لسد الفراغ الأخلاقي. فالقوانين، في أحسن أحوالها، لا تخلق الفضيلة بل تنظمها وتحميها.

والفضيلة الرقمية الجديدة التي نحتاجها لن تولد من سجن يهدد، بل من قناعة راسخة بأن كرم الروح لا يتعارض مع احترام حدود الآخرين، حتى لو كانت هذه الحدود غير مرئية وتأخذ شكل إشارات لاسلكية في الفضاء.

وفي خضم هذا المشهد المعقد، تبرز جهود ملموسة لأجهزة الدولة التنظيمية، وعلى رأسها الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات، لبناء البنية التحتية الرقمية والأطر التشريعية التي تحد من الفوضى..فلا تقتصر الرؤية على العقاب فقط، بل تمتد إلى بناء “مناعة رقمية” استباقية.

فمن خلال وضع معايير أمنية إلزامية لمقدمي خدمات الإنترنت، ومراقبة جودة الخدمات، والتوعية بمخاطر القرصنة والبرمجيات الخبيثة، تسعى هذه الأجهزة لرفع مستوى الحماية للمواطن والشبكة على حدٍ سواء.

كما تتعاون مع النيابة العامة ووزارة الداخلية لتطوير آليات رقمية متخصصة في رصد وتحليل الجرائم الإلكترونية، حتى لا يقتصر الأمر على نص القانون، بل يمتد إلى بناء قدرات فنية تحوله إلى أداة فاعلة،

ويأتي ذلك ضمن استراتيجية أوسع للتحول الرقمي الآمن، تهدف إلى جعل الفضاء الإلكتروني المصري فضاءً منتجاً ومحمياً، حيث تحفظ الحقوق دون أن تخنق الابتكار، وتُفرض الحدود دون أن تعطل التواصل.

هذه الجهود، وإن كانت لا تزال في طور البناء والتطوير، تُظهر أن المعادلة ليست بين “تطبيق قانوني قاسٍ” و”فوضى رقمية عابرة”، بل هناك مسار ثالث يعمل على تهيئة البيئة التقنية والمجتمعية معاً، بحيث يصبح احترام الملكية الرقمية ثقافة نابعة من الوعي والمصلحة، وليس مجرد خوف من عقوبة معلقة.

ربما يأتي اليوم الذي يصبح فيه طلب كلمة سر الواي فاي مرتبطاً بالتهديد بالسجن مجرد نكتة من الماضي، لأن الأخلاق الجديدة ستجعل السؤال نفسه غير وارد، عندها فقط يكون القانون قد حقق هدفه الحقيقي، حتى لو لم يحاكم بموجبه شخص واحد.

error: Content is protected !!