أخبارمقالات

محمد أبو المجد يكتب: “نبينـــا ونبيهم (1)

قال الشاعر الألماني الشهير “جوتة”: “بحثت في التاريخ عن مثلٍ أعلى لهذا الإنسان، فوجدته في النبي العربي محمد”. أشد ما لفت أنظار المفكرين والفلاسفة الغربيين والمستشرقين في شخصية سيدنا محمد، رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، هو جانب الرحمة في أقواله وأفعاله وحياته ومعاملاته.. مع أهله، وأصحابه، وحتى أعدائه.

كان نبي الرحمة ذا شخصية مبهرة حقًّا.. وقد ظل محافظًا على هذا الإبهار منذ الميلاد، وحتى لقاء ربه، وهذا لأنه رسول رب العالمين، المعصوم من الآثام والخطايا.. ولنتدبر حياته جيدًا.

إنه لم يكن رسولًا فقط، ولكنه كان حاكمًا، وقائدًا، وزعيمًا كذلك، وعلى الرغم من هذه الدرجة المرموقة إلا أنه عاش مع صحابته، وأتباعه كواحد منهم، ما تفاضَلَ عليهم بطعام، ولا بشراب، ولا بسكن، ولا بمال.. لقد تحمل معهم الأذى في كل موضع، جاع معهم كما جاعوا، بل أكثر، وتعب معهم كما تعبوا، بل أشد.. حُوصِر معهم، وهاجر معهم، وقاتل معهم، بل كان أقربهم للعدو.

ما فَرَّ يومًا في حياته، لا في أُحُد، ولا في حُنَيْن، ولا في غيرهما.. لم تزدْه كثرةُ الأذى إلا صبرًا، ولم يزدْه إسرافُ الجاهلين إلا حِلمًا.. ما غَضِبَ لِذَاتِه قط، وما انتقم لنفسه أبدًا، إلَّا أن تُنتَهَك حُرمةُ الله.

كان كريمًا واسع الكرم، لم يرد سائلًا قَطُّ.. جاءت له الدنيا راغمة، فأنفقها كُلَّها في سبيل الله، ولا عُرِفَ عنه قَطُّ أنه اختص نفسه بشيء، دون أصحابه وأتباعه.

كان كثير المخالطة للرعية، لم يعتزل عنهم أبدًا، كان يجالس الفقراء، ويرحم المساكين، وتسير به الأَمَةُ والطفل في شوارع المدينة أينما شاءت، وكان يعود المرضى، ويشهد الجنائز، ويخطب الجُمَع، ويعلِّم الدروس، ويزور أصحابه في بيوتهم، ويزورونه في بيته، وهو في كل ذلك دائم الابتسامة منبسط الأسارير، متهلل الوجه.

كان رحيمًا بأمته تمام الرحمة، ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس عنه، كان كثير العفو حتى عَمَّن ظلمه وبالغ في ظلمه، وكان واصلًا للرحم، حتى لمن قَطع رحمه، وبالغ في القطع.

ولم تكن عظمة نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم في معاملاته مع الناس فحسب، أو في أخلاقه الكريمة فقط، ولكنه كان سياسيًّا بارعًا، وقائدًا حكيمًا، وخطيبًا مُفوَّهًا، لا تفوت عليه صغيرة ولا كبيرة، تفيض الحكمة من فمه، أُوتِيَ جوامع الكلم، يتكلم بالكلمات القليلة، فيمكث العلماءُ والحكماءُ الأعوامَ والقرون يستخرجون المعاني الهائلة منها..

يحاور كأفضل ما تكون المحاورة، ويفاوض فما يتنازل أو يَزِلُّ أو يظلم أو يغضب.. يستعين بأصحابه ويشاورهم مع رجاحة عقله عنهم، وارتفاع منزلته فوقهم.. ما يُسَفِّه رأيًا، ولا ينتقِصُ أحدًا.. الحكمة ضالَّتُه، أينما وجدها أخذها، ما دامت في حدود الشرع.

وكانت عظمته الحقيقية في أنه اتَّصف بكل هذه الصفات الحميدة، وغيرها، في كل مواقف حياته.. لقد رأينا هذه الصفات في مكة، ورأيناها في المدينة، رأيناها في سلْمِه، ورأيناها في حربه، رأيناها وهو مُطارَد ومُضطَهَد، ورأيناها وهو حاكم مُمَكَّن، رأيناها وهو يتعامل مع أَحَبِّ أصحابه، وكذلك رأيناها وهو يتعامل مع أَلَدِّ أعدائه.

كانت حياته صلى الله عليه وسلم كلها على هذه الصورة البهية النقية، حتى انبهر به أعداؤه قبل أصحابه، وحتى عظَّمه وبَجَّله وقدَّره من سمع عنه، ولم يره، بل من لم يعاصره أصلًا، بل فعل ذلك الكثير من غير المسلمين!.

يقول “لا مارتان” الشاعر الفرنسي المتميز: “من ذا الذي يجرؤ من الناحية البشرية على تشبيه رجل من رجال التاريخ بمحمد؟!! ومن هو الرجل الذي ظهر أعظم منه، عند النظر إلى جميع المقاييس التي تقاس بها عظمة الإنسان؟ إن أعظم حدث في حياتي هو أنني درست حياة رسول الله محمد دراسة وافية، وأدركت ما فيها من عظمة وخلود”.

قال عنه ربه، عز من قائل: “لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ” (128) (التوبة)

فيتــــــو  22 يونيو 2018

error: Alert: Content is protected !!