أشار التقرير العربي الثالث للتنمية الثقافية الصادر عن مؤسسة الفكر العربي عام 2010، إلى أن معدّلَ القراءة عند الفرد العربي 6 دقائقَ سنويٍّا مقابل 200 ساعةٍ للأوروبي، أى أن الفرد الأوروبي يقرأ مايعادل 2000 ضعف مايقرأه العربي.. ولم يشرح التقرير بوضوح كيفية التوصل إلى هذه النتيجة..جاء ذلك فى نقابة لعبد القادر الكاملي، مستشار أبحاث في “أورينت بلانيت للأبحاث”، تحت عنوان “قراءة في مؤشر القراءة العربي”.
والغريب أن النتيجة السابقة -على الرغم من صعوبة تصديقها – نالت إعجاب الكثير من الصحفيين والكتاب والباحثين العرب فأوردوها في مقالاتهم وكتبهم، مما رفع هذه المعلومة إلى مرتبة الحقيقة.
ظلت هذه النتيجة قيد التداول لمدة 6 سنوات تقريباً، وابتداءً من السابع من ديسمبر 2016، بدأت الصحف ووسائل الإعلام العربية الأخرى تطالعنا بعناوين جديدة مختلفة من قبيل: “متوسط الوقت الذي يقضيه المواطن العربي في القراءة يصل إلى 35 ساعة سنوياً”، و”الإنسان العربي يقرأ 35 ساعة سنوياً”، وغيرها من العناوين المشابهة.
كان وقع هذا النبأ مفرحاً، وأكثر منطقية مما كان متداولاً في السابق، فالفرد الأوروبي لم يعد يقرأ 2000 ضعف ما يقرأه العربي، بل يقرأ مايقارب 6 أضعاف ما يقرأه العربي فقط.. فهل يمكننا إذاً أن نستخدم هذه المعلومة كحقيقة، خاصة وأنها بدأت تحظى بشبه إجماع للإعلام العربي؟
نسبت وسائل الإعلام هذه المعلومة الجديدة إلى تقرير مؤشر القراءة العربي الذي بني على نتائج استبيان واسع شمل كافة البلدان العربية، ووزع في قمة المعرفة، ديسمبر 2016 التي عقدت في دبي.
جاء هذا التقرير كثمرة للتعاون بين مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، لكنه اشار في مقدمته إلى أن “التحليلات والنتائج الواردة في هذه المطبوعة (أي التقرير) لا تعبر بالضرورة عن آراء مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم أو برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أو مجلسه التنفيذي أو الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، فالتقرير منشور مستقلّ، وهو ثمرة جهد تعاوني بذله فريق من الاستشاريين والخبراء البارزين”.
ولكي نتبين دقة ما أشارت إليه وسائل الإعلام عدنا إلى التقرير، فوجدناه ينص على أن الهدف من مؤشر القراءة العربي هو “وضع آلية قياس عربية لرصد واقع القراءة في الدول العربية، ثم انتقلت إلى النتائج، فوجدت أنها سلطت الضوء فعلاً على جوانب عديدة تتعلق بالقراءة في البدان العربية.
يقول التقرير – بحساب عدد ساعات القراءة سنوياً -تراوحت الأرقام بين 7.78 ساعة في الصومال، و63.85 ساعة في مصر، بمعدل عربي يساوي 35.24 ساعة سنوياً”.
اعتمد البحث على تقنية الاستبيان الإلكتروني، أي تم استطلاع آراء المشاركين فيه عبر الإنترنت، مع العلم أن نسبة انتشار استخدام الإنترنت في البلدان العربية لم تتجاوز 40 بالمئة، وفق أحدث بيانات الاتحاد الدولي للاتصالات، بل وقرابة نصف مستخدمي الإنترنت ليسوا ممن يتعاملون بشكل منتظم مع الإنترنت وشبكاتها الإجتماعية التي تم الاستعانة بها لتنزيل الاستبيان كما أشار التقرير، وهذا يعني بالضرورة استبعاد تمثيل شريحة كبيرة من السكان، ما يفقد نتائج الاستبيان قدرتها على تمثيل الفرد العربي.
يضاف إلى ذلك أن نسبة استخدام الإنترنت تختلف بشكل كبير من بلد عربي إلى آخر، فعلى سبيل المثال، بلغت وفق بيانات الاتحاد الدولي للاتصالات، نحو 91 بالمئة في دولة الإمارات، و70 بالمئة في المملكة العربية السعودية، و36 بالمئة في مصر، و25 بالمئة في اليمن، و15 بالمئة في موريتانيا. ومن البديهي أن استبياناً يستبعد الشريحة الأكبر من السكان لا يمكنه تمثيل الفرد العربي. يضاف إلى ذلك، أن المقارنات التي تجري بين البلدان العربية نتيجة لهذا الاستبيان لايمكن أن تكون عادلة. كما توجد أسئلة أخرى حول الطبيعة التمثيلية لنتائج الاستبيان، كنسبة تمثيل الطلاب ضمن العينة التي تخطت 40 بالمئة.
لا شك أن سعة العينة التي تجاوزت 148 ألف شخص من مختلف البلدان العربية حسبما يقول التقرير، يمكن الاعتماد على نتائجها لاستخلاص آراء إرشادية بشأن واقع القراءة في الدول العربية، لكنها لاتمثل المجتمع العربي بأكمله، وبالتالي لاتمثل الفرد العربي على وجه العموم. ولحسن الحظ، أشار التقرير إلى ذلك بوضوح، إذ يقول:
“يستحيل – أو يَكاد يستحيل – إنجازُ مسحٍ على عيِّنةٍ تمثيلية تسمح بالخروج باستنتاجات قابلةٍ
للتعميم على المجتمع بأكمله. لكنْ يُمكن اعتبارُ هذه الصيغة من استبيان القراءة التي وُضِعت خصّيصًا لمؤشِّرالقراءة العربي لَبِنَةً مهمّة في اتجاه الحصول على قياساتٍ أكثرَ دقّةً وموضوعية حول واقع القراءة في المنطقة العربية”.
التقرير يشير بشكل غير مباشر إلى أن النتائج التي أسفر عنها الاستبيان غير قابلة للتعميم على المجتمع بأكمله، وبمعنى آخر، ليس دقيقاً ما تداولته وسائل الإعلام من أن متوسط ما يقضيه الفرد العربي في القراءة سنوياً، يبلغ 35 ساعة، لأن الدقة تتطلب القول ” أن متوسط ما يقضيه الفرد العربي المشارك في الاستبيان، في القراءة سنوياً، يبلغ 35 ساعة”. وينطبق هذا أيضاً على معظم النتائج الأخرى.
المشكلة إذاً ليست في التقرير الذي رصد كثيراً من الجوانب المفيدة فيما يتعلق بواقع القراءة في الدول العربية، لكن في الرسالة غير الدقيقة التي وصلت إلى وسائل الإعلام، بغض النظر عن منطقية أو لامنطقية تلك الرسالة.
آمل أن لايعيدنا شبه الإجماع الإعلامي على النتيجة التي جرى ترويجها كحقيقة، إلى منهجية نيتشة فنقول أن الحقيقة هي ماتتفق عليه وسائل الإعلام؟