محمد أبو المجد يكتب: العفريت .. والتوك توك
في أول أيام شهر أغسطس من عام 1896، خلت بيوت القاهرة من سكانها، حيث هرعوا إلى الشوارع، رجالًا ونساءً وأطفالًا، واحتشدوا على طول الطريق الممتد من بولاق إلى القلعة، عبر ميدان العتبة الخضراء، ليشهدوا مخلوقًا غريبًا يزحف على قضبان حديدية، والأطفال من خلفه يركضون ويهتفون: “العفريت.. العفريت…”.
لم يكن ذلك الكائن الغريب سوى أول عربة ترام تشق شوارع القاهرة، في أول رحلة تجريبية لهذا المخلوق الحضاري، الذي غير وجه المجتمع القاهري تمامًا.. في العربة كان يجلس ناظر الأشغال حسين فخري باشا، معه كبار موظفيه، وقد تملكهم الزهو والفخر.. وكانت العربة، كما وصفها مندوب صحيفة “المقطم”، “تسرع حتى تسابق الريح متى خلت لها الطريق، وتارة تسير رويدًا رويدًا، أو تقف بغتة عند اعتراض الأولاد والسابلة طريقها، وقد وقف سائقها ووضع يده على ميزان تسييرها وإيقافها، ويصل بينها وبين السلك فوقها عمود من الحديد لإتمام الدورة الكهربائية”.
وبعد أيام من تلك الرحلة التجريبية المثيرة، احتفلت الشركة البلجيكية رسميًا بتسيير الترام على الخطوط الثمانية، التي كانت تتجمع في ميدان “العتبة”، وتمتد إلى أطراف القاهرة، ووصفت الصحف هذا الحدث الفريد بقولها: “شهد أهل العاصمة أمس مشهدًا قلما شهد مثله أهالي المشرق، ولم يخطر على قلب بشر منذ مائة عام، وهو أن تجري مركبات كبيرة تقل المئات من الناس، لا بقوة الخيل، ولا بقوة البخار، بل بقوة الطبيعة التي تسبب البرق، هذا هو الترامواي الكهربائي”.
وفي كتاب مهم وضعه محمد سيد كيلاني عن “ترام القاهرة” معلومات طريفة عن عملية تنظيم ركوب الترام.. “فقد كان يحظر ركوبه على كل محدث غوغاء، أو سكران، أو مصاب بعاهة تشمئز منها النفس، ولا يجوز تسلق العواميد المعدة للحركة الكهربائية، أو تعليق شيء عليها، أو إقامة إشارات كاذبة”.
تسيير الترام كان حدًا فاصلًا في تاريخ المجتمع القاهري، انتقل بعده من طور البداوة والتأخر، إلى طور الحضارة والمدنية.. من استخدام الحمير والبغال، إلى استخدام القوة الكهربائية.. وكان معظم الناس يجدون صعوبة كبيرة في الانتقال، بسبب تعسف أصحاب الحمير والعربات، وما يوجهونه إلى الجمهور من ألفاظ نابية، فلما سار الترام، حدثت ثورة هائلة في جميع نواحي الحياة، فتلاشت العزلة بين أحياء المدينة، وسهلت عملية الانتقال، والسهر، وصار في متناول الشبان قضاء الليل في الملاهي، والمراقص، وبدأت الروابط العائلية في التفكك، وضعفت رقابة الآباء على الأبناء، كما ساعد وجود الترام على اتساع حركة العمران، وتنشيط الحركة التجارية، ونشأت المحال الكبرى في منطقة العتبة.
ولما سهل على الناس الانتقال، ازداد امتزاجهم واختلاطهم، وبدأ الرأي العام يتبلور، ويصبح خطرًا على الجهات الحاكمة، وكثرت الأندية الثقافية والرياضية، والصحف والمجلات.. وكان من الطبيعي أن ينعكس هذا كله على الأدب، فظهر “الأدب الترامي”، الذي يسجل معالم الحياة الجديدة، بما فيها من خير وشر، وخلاعة ومجون، وتقدم وتأخر، خصوصًا بعد أن أصبح الترام سببًا في وقوع حوادث لم يألفها جمهور القاهرة من قبل.
ترى ماذا يقول المؤرخون عن وسائل الانتقال العشوائية التي اقتحمت حياتنا في السنوات الأخير، واضطرتنا ظروف الحياة إلى استخدامها، حتى أصبحت في بعض المناطق هى الوسائل الوحيدة للتنقل، مثل الميكروباص والتوك توك.. ذلك الكائن المعدني، الصغير حجمًا، الكبير أثرًا، وتأثيرًا في نشر الحوادث الغريبة، والأخلاقيات المزرية، والتصرفات التي تعف عنها النفوس السوية، والأغاني الهابطة؟!
نحتاج من أساتذة التاريخ، وعلماء الاجتماع وخبراء علم النفس إنتاج دراسات وبحوث حول تأثير الميكروباص والتوك توك على عادات وثقافة وأخلاق المصريين، خصوصًا الشباب.. وأتصور أن تلك الدراسات ستكشف عن مفاجآت مذهلة، وستوضح فروقًا مروعة بين المصريين قبل ظهور هذين الوسيلتين، والمصريين في زمن التوك توك.
نشر فى فيتو .. الجمعة 5 مايو 2017