
في اللحظة التي اعتلى فيها الدكتور بدر عبد العاطي، وزير الخارجية المصري، منصة افتتاح الدورة التاسعة والعشرين من المعرض، بدا المشهد وكأن الدبلوماسية المصرية تعلن دخول مرحلة جديدة من الوعي، مرحلة تتجاوز لغة البيانات الرسمية التقليدية نحو خطاب يستوعب تعقيدات عالم تتسارع فيه خوارزميات الذكاء الاصطناعي أسرع مما تتحرك فيه الجغرافيا السياسية.
مشهد غير مألوف، لكنه بالغ الدلالة: وزير خارجية دولة يتقدّم بمنصة تكنولوجية خالصة، يطرح خلالها قضايا تقنية دقيقة تتصل بالذكاء الاصطناعي والأسلحة ذاتية التشغيل، في مناسبة مهنية متخصصة مثل معرض القاهرة الدولي للاتصالات وتكنولوجيا المعلومات.
ما لفت الانتباه ـ وربما أثار الانبهار لدى الحضور والمتابعين ـ لم يكن فقط أداء الوزير المتزن، ولا حضوره الواثق، بل اللغة التي تحدث بها، فقد صاغ رسائل تتطلب خلفية تقنية حقيقية: جرائم الذكاء الاصطناعي، تجريم استخدام الأنظمة المستقلة القاتلة، المسؤولية الدولية تجاه المدنيين، وضبط توظيف التقنيات المستقبلية في النزاعات.
هذه ليست مفردات لا يتوقعها أحد عادة من وزراء الخارجية، لكنها كانت حاضرة بعمق ودقة، ما يعكس تطورًا لافتًا في ثقافة ممثلي الحكومة المصرية وقدرتهم على مواكبة التحولات التقنية الكبرى.
بدا خطاب الوزير وكأنه يجمع بين عقل الدبلوماسي وخبرة المتخصص، ليقدم رؤية تتجاوز البروتوكول إلى روح العصر.
إن طلب الوزير بوقف استخدام هذه الأسلحة ضد العسكريين في النزاعات يشير إلى فهم عميق بأن خطورة هذه التقنيات لا تقتصر على المدنيين؛ بل تهدد بتغيير قواعد الحرب نفسها، وتحويل ساحة المعركة إلى ساحة تختفي فيها الإنسانية، ليحل محلها منطق ميكانيكي بارد.
طالب الدكتور بدر عبد العاطي المجتمع الدولي بتجريم استخدام وسائل الذكاء الاصطناعي ضد المدنيين في الحروب، لم يكن ذلك مجرد موقف أخلاقي؛ بل كان تحذيرًا استباقيًا من مستقبل قد يتحوّل فيه القتال إلى معادلات لا ترى البشر إلا كبيانات هدف يجب تصفيتها.
فالأسلحة المستقلة ذاتية التشغيل لا تتعامل مع الخطأ البشري، بل مع غياب الإنسان بالكامل. وهي نقلة قد تُفقد العالم أي مساحة للتعاطف أو التمييز أو التقدير البشري في لحظة الضغط على الزناد..لأنها لحظة لن يكون فيها بشر أساسًا.
ما حدث في Cairo ICT لم يكن مجرد كلمة في افتتاح معرض، بل كان إعلانًا هادئًا بأن مصر تدرك جيدًا مسارات العالم الجديدة، وأن الدبلوماسية الوطنية باتت تتعامل مع التكنولوجيا كأحد أعمدة الأمن القومي، وكذلك فإن قدرة ممثلي الحكومة على مخاطبة قضايا الذكاء الاصطناعي، والأنظمة المستقلة، والأمن السيبراني، وحوكمة التكنولوجيا، تؤكد أن الدولة المصرية تتعامل مع التحول الرقمي ليس بوصفه مشروعًا تنمويًا فقط، بل باعتباره لغة العصر.
وجه خطاب الوزير رسالة مزدوجة: للداخل: بأن ممثلي الدولة يدركون تمامًا حجم التحولات التقنية ومستقبلها، ويملكون وعيًا يسمح لهم بصياغة مواقف تليق بدور مصر الإقليمي والدولي، وللعالم: بأن القاهرة ليست متلقّيًا للأجندة العالمية في التكنولوجيا، بل طرف فاعل يسهم في صياغة قواعد استخدامها ووضع ضوابطها.
إن المشهد الذي قدّمه الدكتور بدر عبد العاطي في معرض القاهرة الدولي للاتصالات يعكس تحوّلًا أعمق مما يبدو على السطح، فقد أصبح الوعي التكنولوجي جزءًا من الكفاءة السياسية، وباتت المعرفة التقنية شرطًا من شروط صناعة القرار وممارسة الدبلوماسية الحديثة.







