فى مارس الماضي؛ توفي رجل الأعمال الكويتى محمد عبد الرحمن الشارخ، الرجل الذي كانت له البصمات الأولي والأكثر تأثيراً على المحتوى الالكتروني العربي..إنتقل الرجل الذي وضع أسس الحواسيب العربية فى صمت، توفي صاحب “صخر”، وللأجيال الحالية التي ترعرعت على “الآيفون” وحواسيب الشركات العالمية أمثال “إتش بي ودل” وغيرهما نقص قصة الحاسب العربي الأول وصانعه.
يعد “الشارخ” من أبرز رجال الأعمال الذين أسهموا بشكل كبير وملحوظ في دعم الثقافة وحماية اللغة العربية من موجات التغريب، وكان له الفضل في إدخال اللغة العربية إلى الحواسيب للمرة الأولى في التاريخ، في حقبة الثمانينيات، ومن إنجازاته أيضا الترجمة من العربية وإليها، وترجمة التخاطب الآلي، وتطوير برامج تعليمية وتثقيفية عديدة، وتعليم البرمجة للناشئة، ونشر كتب تعليم الحاسوب وتدريب المدرسين، وتأسيس معاهد تعليم برمجة الحاسب.
كما يذكر للشارخ أنه كان أول من تجرأ على اختراق عالم تقنية المعلومات باللغة العربية، مخلفاً وراءه أعظم مكتبة إلكترونية للمجلات الثقافية والأدبية التي شهدها العرب، وتضمنت أعماله أكثر من 325 ألف مقال بأقلام أكثر من 50 ألف كاتب ومفكر وأديب، مول مشاريعه بأمواله الخاصة دون الحاجة لدعم حكومي.
تخرج الشارخ فى جامعة القاهرة بجمهورية مصر العربية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وتابع دراسته للحصول على الماجستير من جامعة ماساتشوستس الأمريكية..وتمكن من تطوير أقوى نظام في العالم لقراء النصوص العربية Arabic OCR في هذا الوقت في منافسة كبرى الشركات العالمية وقتها مثل Omni-page – Calera، وكان نموذجاً مثالياً لرائد الأعمال الجريء عاشق اللغة العربية ومسخراً لها كل موارده وامكانياته، وكانت إسهاماته مصدر إلهام ونفع لأجيال من العرب عبر المحيط إلى الخليج.
نال الشارخ جائزة الدولة من المجلس الوطني للثقافة بالكويت، وجائزة World summit award، والجائزة التقديرية الكبرى ضمن جوائز التقنية العربية، وجائزة الرواد من مؤسسة الفكر العربي، وجائزة “صاحب الرؤية الإلكترونية” تقديرًا لإنجازاته في مجال صناعة البرامج العربية، وجائزة منتدى النجاحات الخليجية، وحصلت شركة صخر التي أسسها على ثلاث براءات اختراع من مكتب البراءات الأميركي في حقل اللغة العربية للنطق الآلي والترجمة الآلية والمسح الضوئي.
وأنشا الشارخ المعجم العربي المعاصر “معجمي”، وكذلك أرشيف المجلات الثقافية والأدبية الذي يمثل ذاكرة للثقافة العربية، ويشتمل على 13 ألف عدد من المجلات التي صدرت منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى 2010.
ويتحدث الشارخ في كلمته في اليونسكو عن المعجم المعاصر للغة العربية الذي دشنه قبل مدة قصيرة” “رأيت ضرورة العمل على معجم حديث للغة العربية بعد أن توقف العرب عن استخدام المعاجم القديمة لصعوبة استخدامها؛ إذ يتطلب استخدامها معرفة الصرف لتحديد جذر الكلمة كما تحتوي على كلمات عديدة لم تعد في الاستعمال، وكون شرح هذه الكلمات يستخدم لغة قديمة وشواهد تحتاج بذاتها إلى شرح بل شروح، كما رأيت أن يكون المعجم إلكترونيًّا ليسهل استخدامه على وسائل التواصل الحديثة”.
بنى الشارخ وفريقه ذخيرة لغوية مدونة تشمل خمسين مليون كلمة من الكتابة العربية منذ بداية القرن العشرين ومكنزًا مرمزًا من سبعة ملايين مفردة، وطوروا أنظمة إحصائية لاستخراج الكلمات الفريدة وأولوية استخدام معانيها، واستعانوا بالصرف الآلي والتشكيل الآلي والنطق الآلي والترجمة الآلية لكل منها، إضافة إلى خصائصها الصرفية والنحوية ومرادفاتها ومتضاداتها واشتقاقاتها وذلك في برنامج متاح على الإنترنت لأجهزة الحاسب وجميع أنواع الأجهزة الكفية التي تعمل بنظامي Android أو IOS.
وخصص الشارخ كل جهوده لشركة “صخر” التي أسسها في 1982، كشركة كويتية تابعة لـ “الشركة العالمية للإلكترونيات” التي نُقل مقرها إلى القاهرة فى العام 1990، حيث طورت تقنيات متقدمة عديدة وتركت علامات بارزة في صناعة تقنية المعلومات.. ومن أقوال الراحل المأثورة: “لا يعرف قيمة أَرشيف “صخر” للمجلات العربية إلا من صرف الوقت والجهد للبحث عن مقال نشر في مجلة صدرت في القرن التاسع عشر أو بداية القرن العشرين”.
ويعد الحاسوب “صخر” باكورة الانتاج العربي للحواسيب، حيث كان مشروعاً مشتركاً انطلق في العام 1982، وذلك لكسر الحاجز التقني بين الشعوب العربية وتقنية المعلومات، وكان تحالفاً مشتركاً بين شركتي “العالمية الكويتية” و”ياماها اليابانية”، ونجح المشروع بشكل كبير، وتم بيع مئات الآلاف من أجهزته، فقد بيع من جهاز AX-170 وحده أكثر من ثلاثمائة ألف جهاز بالإضافة إلى عشرات الآلاف من البرامج والتطبيقات سواء التي أنتجتها العالمية أو شركة “برق للبرمجيات” أو التي أنتجتها شركة “كونامي اليابانية” وأشهرها “كاسل فينيا”.
وبعد الغزو العراقي للكويت فى العام 1990، قامت شركة العالمية بإعادة هيكلة أنشطتها وإيقاف برنامج إنتاج الأجهزة ليتم الاعتماد على الذراع البرمجي للمؤسسة والذي تم نقل مقره إلى القاهرة باسم صخر، كما أدّى نجاح مشروع الحاسوب صخر لظهور العديد من المشاريع الشبيهة والتي كانت كلها تستخدم نظام التشغيل صخر أمثال “المثالي” بالمملكة العربية السعودية، و”الوركاء” بالعراق، و”الفاتح” بليبيا..وبينما كانت سوريا والأردن ومصر على وشك إنتاج أجهزة تعمل بنفس النظام أعلنت شركة مايكروسوفت المالكة لحقوق نظام التشغيل MSX عن إيقاف تطويره وذلك في نهاية العام 1990.
ويذكر للشارخ أيضاً أنه كان أول من لجأ لاستخدام مايعرف حالياً بالذكاء الاصطناعي، يقول الشارخ رحمه الله: “في أوائل سبعينيات القرن الماضي كنت أعمل عضوًا في مجلس إدارة البنك الدولي للإنشاء والتعمير في واشنطن، فدخل مكتبي لأول مرة الحاسب الشخصي وإذ اندهشت من إمكانياته في حفظ المعلومات واسترجاعها رأيت أن لا بد من العمل على تعريب تقنياته لتتواءم مع خصائص اللغة العربية في الصرف والتشكيل..طال التفكير وتعددت الاستشارات واختمرت الأفكار وقررت أوائل الثمانينيات 1982 البدء بالمشروع، فاستأجرت فيلا بمنطقة الجابرية في الكويت لبدء المشروع الذي يتطلب تحويل قواعد اللغة العربية وتصريفها إلى Binary System في علم جديد نشأ آنذاك بسبب تقنية الكومبيوتر وهو علم معالجة اللغة الطبيعية NLP: Natural language Processing الذي يستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي Artificial Intelligence“.
تذكرت “الشارخ” ومنتجه العربي الأصيل “صخر”..كما شعرت بأهمية أن يولد لدينا “شوارخ جدد” أمس الأول أثناء القائى لمحاضرتى: “إستخدام التكنولوجيا فى بناء الإنسان وحمايته ومن التطرف الفكري”، وتحديداً عندما وصلت إلى شرح تقرير الاتحاد الدولي للاتصالات الصادر فى نهاية العام الماضي 2023، والذي ذكر أن حجم المحتوى العربي على شبكة الإنترنت العالمية لا يتجاوز 3%، فأنتقلت على الفور إلى دعوة وحث الشباب الحاضرين إلى إثراء المحتوي العربي ضارباً بالراحل “الشارخ” رحمة الله عليه القدوة والمثل.