مقالات

(دماغيات) خالد أبو المجد: “الفتــــوة”

الاستماع للخبر

خلال سبعينات القرن الماضى..وبعد أيام أو أسابيع قليلة من بدء دراستى بالصف الأول بالمرحلة الابتدائية بمدرسة عمر مكرم الشهيرة بحى شبرا العتيق طلبت من والدتى “رحمة الله عليها” أن تزيد لى كمية وجبتى المدرسية اليومية، والتى كانت عبارة عن رغيف من الجبن أو المربى..وأحياناً الفول أو أقراص الطعمية الساخنة الشهية.

إستجابت أمى على الفور للمطلب وهى سعيدة بأن إبنها “نفسه مفتوحة”، ويتناول وجبته المدرسية كلها، بل ويطالب بزيادتها حتى يشبع..ولم يكن يدور بخلدها السبب الحقيقى وراء هذا المطلب.

الحكاية ببساطة جداً أن مفهوم “فتوة الحارة” الذى أسهب أديبنا العالمى -صاحب نوبل الأدب- نجيب محفوظ “رحمه الله” فى سرد قصصه فى ثلاثياته الشهيرة، هذا المفهوم يبدو أنه تبعثر وتشتت فى قطاعات كثيرة، ومنها قطاع طلاب المدارس، فجاء فى فصلى “الفتوة” فى صورة زميلى “إسماعيل”، والذى كان يكبرنى فى العمر بعام واحد فقط تقريباً، إلا أن الفرق فى التكوين الجسدى كان كبيراً، مما دعاه أن يمثل لى “الحماية” المطلوبة مقابل “السندويتشات”، أمام “رشدى” و”محمد الفار”، الذين كانا يمثلان لى رعباً يومياً..بل لحظياً إذا خالفتهما فى رأى.

كانت حماية اسماعيل كافية جداً لأعبث كما أشاء فى آراء “التخين” فى الفصل، وكان ثمنها فى نظرى بسيط، لا يتعدى “لقيمات” يقتات عليها إسماعيل الذى لم أراه يوماً يحمل سندويتش من صنع زوجة أبيه، كما إن الامور تطورت بيننا فأصبحت “صحوبية” وليست حماية بمقابل، فكنت أقتسم معه وجبتى المدرسية برضا كامل، بل وأضغط عليه بها إذا كان “شبعان”، بل ووصل الأمر إلى تخييره فى نوعية الطعام الذى يريده فى الغد ..!!

إنتهت علاقتى بفتوتى إسماعيل فى الصف الثالث الابتدائى، لا أدرى أين ذهب، ربما “خرج” من الدراسة تماماً ليلحق بتجارة والده “المعلم” الكبير بالسوق، أو ذهب إلى مدرسة أخرى..النتيجة أنى لم أعد أراه أو أتعامل معه خاصة بعد رئاستى لمجموعة “الخدمة العامة” والتى كانت تضم جماعات الشرطة المدرسية والصحة والإدخار وغيرها فى الصف الرابع الابتدائى، مما وطد علاقاتى بمدرس التربية الرياضية -فتوة المدرسة كلها- وبالمدرسين، فأصبح جميع الطلاب يحرصون على مصادقتى ومعاملتى معاملة جيدة.

حتى فترة قريبة شغل ذهنى أين ذهب أصحاب الطفولة، وعلى رأسهم إسماعيل ورشدى ومحمد سعد ومحمد الفار ومحمد محمود منصور، وفى بداية التسعينات، وأثناء مرورى مصادفة بالسوق، شاهدت إسماعيل ..”فتوتى السابق”، يرتدى جلباب أبيض، يكتسى وجهه بشارب كث ولحية غير مهذبة، ويزين الذهب عنقه ويديه بكميات مبالغ فيها، ويقف لينادى على “السمك”، تجارته الخاصة التى إنفصل فيها عن تجارة والده..نظرة إليه بتأمل من على بعد إستغرقت دقائق كانت كافية لإستعادة ذكريات سنوات حلوة مضت..حقاً الدنيا صغيرة.